ما اشتروا به أنفسهم بقوله تعالى: * (أن يكفروا بما أنزل الله) * ولا شبهة أن المراد بذلك كفرهم بالقرآن لأن الخطاب في اليهود وكانوا مؤمنين بغيره، ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر بما أنزل الله فقال: * (بغيا) * وأشار بذلك إلى غرضهم بالكفر كما يقال يعادي فلان فلانا حسدا تنبيها بذلك على غرضه ولولا هذا القول لجوزنا أن يكفروا جهلا لا بغيا.
واعلم أن هذه الآية تدل على أن الحسد حرام. ولما كان البغي قد يكون لوجوه شتى بين تعالى غرضهم من هذا البغي بقوله: * (أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده) * والقصة لا تليق إلا بما حكيناه من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم بالنبوة المنتظرة يحصل في قومهم فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد.
أما قوله تعالى: * (فباؤ بغضب على غضب) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير الغضبين وجوه، أحدها: أنه لا بد من إثبات سببين للغضبين. أحدهما: ما تقدم وهو تكذيبهم عيسى عليه السلام وما أنزل عليه والآخر تكذيبهم محمد عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه فصار ذلك دخولا في غضب بعد غضب وسخط بعد سخط من قبله تعالى لأجل أنهم دخلوا في سبب بعد سبب، وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة، الثاني: ليس المراد إثبات غضبين فقط بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: * (عزيز ابن الله) * (التوبة: 30). * (يد الله مغلولة) * (المائدة: 64). * (إن الله فقير ونحن أغنياء) * (آل عمران: 181) وغير ذلك من أنواع كفرهم، وهو قول عطاء وعبيد بن عمير، الثالث: أن المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحدا إلا أنه عظم، وهو قول أبي مسلم. الرابع: الأول بعبادتهم العجل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجحدهم نبوته عن السدي.
المسألة الثانية: الغضب عبارة عن التغير الذي يعرض للإنسان في مزاجه عند غليان دم قلبه بسبب مشاهدة أمر مكروه وذلك محال في حق الله تعالى، فهو محمول على إرادته لمن عصاه الإضرار من جهة اللعن والأمر بذلك.
المسألة الثالثة: أنه يصح وصفه تعالى بالغضب وأن غضبه يتزايد ويكثر ويصح فيه ذلك كصحته من العذاب فلا يكون غضبه على من كفر بخصلة واحدة كغضبه على من كفر بخصال كثيرة.
أما قوله تعالى: * (وللكافرين عذاب مهين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وللكافرين عذاب مهين) * له مزية على قوله ولهم عذاب مهين لأن العبارة الأولى يدخل فيها أولئك الكفار وغيرهم والعبارة الثانية لا يدخل فيها إلا هم.
المسألة الثانية: العذاب في الحقيقة لا يكون مهينا لأن معنى ذلك أنه أهان غيره وذلك مما لا يتأتى إلا فيما يعقل، فالله تعالى هو المهين للمعذبين بالعذاب الكثير إلا أن الإهانة لما