استشهاد الشاهدين أو الرجل والمرأتين على العقد عند الحاكم وإلزامه الحكم به. وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب، لأنه أمر وأوامر الله على الوجوب، فقد ألزم الله الحاكم الحكم بالعدد المذكور، كقوله تعالى: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) [النور: 4] وقوله تعالى: (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [النور: 2] ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور، كذلك العدد المذكور للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه، وفي تجويز أقل منه مخالفة الكتاب كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين أو حد الزنا تسعين كان مخالفا للآية. وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود، أحدهما: العدد، والآخر: الصفة، وهي أن يكونوا أحرارا مرضيين، لقوله تعالى: (من رجالكم) وقوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) فلما لم يجز اسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على دونها، لم يجز اسقاط العدد، إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها وهو العدد والعدالة والرضا، فغير جائز اسقاط واحد منهما، والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا، لأن العدد معلوم من جهة اليقين، والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة، فلما لم يجز اسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر لم يجز اسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين. وأيضا فلما أراد الله الاحتياط في إجازة شهادة النساء أوجب شهادة المرأتين وقال: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) ثم قال: (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا) فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان. وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد، لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك، وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة، وذلك خلاف مقتضى الآية.
ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول ولا مراد بالآية، ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها إثم الشاهد ولا يجوز أن يكون رضي فيما يدعيه لنفسه، فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والوثيقة على ما بين الله في هذه الآية وقصد به من المعاني المقصودة بها. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) وفرق بين اليمين والبينة.
فغير جائز أن تكون اليمين بينة، لأنه لو جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل (البينة على المدعي والبينة على المدعى عليه) وقوله (البينة) اسم للجنس، فاستوعب ما تحتها، فما من بينة إلا وهي التي على المدعي، فإذا لا يجوز أن يكون عليه اليمين.