ذلك إن كان في حال إباحة الكلام بديا قبل حظره فلا حجة للمخالف فيه، وإن كان بعد حظر الكلام فليس يمتنع أن يكون أبيح بعد الحظر ثم حظر فكان آخر أمره الحظر ونسخ به ما في حديث أبي هريرة. وقد بينا أن قوله: (التسبيح للرجال والتصفيق للنساء) كان بعد حديث أبي هريرة، إذ لو كان متقدما لأنكر عليهم ترك المأمور به من التسبيح، ولكان القوم لا يخالفونه إلى الكلام مع علمهم بحظر الكلام والأمر بالتسبيح، وفي ذلك دليل على أن الأمر بالتسبيح ناسخ لحظر الكلام متأخر عنه، فوجب أن يكون ما في حديث أبي هريرة مختلفا في استعماله، فوجب أن تقضي عليه الأخبار الواردة في الحظر، لأن من أصلنا أنه متى ورد خبران أحدهما خاص والآخر عام واتفقوا على استعمال العام واختلفوا في استعمال الخاص كان الخبر المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه.
فإن قيل: قد فرقتم بين حدث الساهي والعامد، فهلا فرقتم بين سهو الكلام وعمده! قيل له: هذا سؤال فارغ لا يستحق الجواب، إلا أن يتبين وجه الدلالة في إحدى المسألتين على الأخرى، ومع ذلك فإنه لا فرق عندنا بين حدث الساهي والعامد في إفساد الصلاة بعد أن يكون من فعله، وإنما الفرق بين ما كان من فعله أو سبقه من غير فعله، فأما لو سهى فحك قرحة وخرج منها دم أو تقيأ فسدت صلاته وإن كان ساهيا فإن قيل:
فقد فرقتم بين سلام الساهي والعامد وهو كلام في الصلاة، فكذلك سائر الكلام فيها.
قيل له: إنما السلام ضرب من الذكر مسنون به الخروج من الصلاة، فإذا قصد إليه عامدا فسدت به الصلاة كما يخرج به منها في آخره، وإذا كان ساهيا فهو ذكر من الأذكار لا يخرج به من الصلاة، وإنما كان ذكرا لأنه سلام على الملائكة وعلى حضره من المصلين، وهو لو قال: السلام على ملائكة الله وجبريل وميكال، أو على نبي الله، لا تفسد صلاته، فلما كان ضربا من الأذكار لم يخرج به من الصلاة إلا أن يكون عامدا له.
ويدل على هذا أنه موجود مثله في الصلاة لا يفسدها، وهو قوله (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) وإذا كان مثله قد يوجد في الصلاة ذكرا مسنونا لم يكن مفسدا لها إذا وقع منه ناسيا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من كلام الناس) وما أبيح في الصلاة من الكلام فليس بداخل فيه فلا تفسد به الصلاة ولم يتناوله الخبر، وإنما أفسدنا به الصلاة إذا تعمد لا من حيث كان من كلام الناس المحظور في الصلاة ولكن من جهة أنه مسنون للخروج من الصلاة، فإذا عمد له فقد قصد الوجه المسنون له فقطع صلاته. وأيضا لما كان من شرط الصلاة الشرعية ترك الكلام فيها ومتى تعمد الكلام لم تكن صلاة عند الجميع إذا لم يقصد به إلى إصلاحها، وجب أن يكون وجود الكلام فيها مخرجا لها من أن تكون صلاة شرعية،