واختلف الفقهاء في موضع الفدية من الدم والصدقة مع اتفاقهم على أن الصوم غير مخصوص بموضع فإن له أن يصوم في أي موضع شاء، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: (الدم بمكة والصيام والصدقة حيث شاء). وقال مالك بن أنس: الدم والصدقة والصيام حيث شاء). وقال الشافعي: (الصدقة والدم بمكة والصيام حيث شاء).
فظاهر قوله: (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) يقتضي إطلاقها حيث شاء المفتدي غير مخصوص بموضع لو لم يكن في غيرها من الآي دلالة على تخصيصه بالحرم وهو قوله: (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) [الحج: 33] يعني الأنعام التي قدم ذكرها، ثم قال: (ثم محلها إلى البيت العتيق) [الحج: 33] وذلك عام في سائر الأنعام التي تهدى إلى البيت، فوجب بعموم هذه الآية أن كل هدي متقرب به مخصوص بالحرم لا يجزي في غيره. ويدل عليه قوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) [المائدة: 95] وذلك جزاء الصيد، فصار بلوغ الكعبة صفة للهدي ولا يجزي دونها. وأيضا لما كان ذلك ذبحا تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون مخصوصا بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة.
فإن قيل: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: (أو اذبح شاة) ولم يشترط له مكانا، وجب أن لا يكون مخصوصا بموضع. قيل له: إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية، وبعضها من الحل وبعضها من الحرم، فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بن عجرة بأن ما تعلق من ذلك بالإحرام فهو مخصوص بالحرم، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم لما كان يرون النبي صلى الله عليه وسلم يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك، وأما الصدقة والصوم فحيث شاء، لأن الله تعالى أطلق ذلك غير مقيد بذكر المكان، فغير جائز لنا تقييده بالحرم، لأن المطلق على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده. ويدل عليه أنه ليس في الأصول صدقة مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره، فلما كانت هذه صدقة لم تجز أن تكون مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره، لأن ذلك مخالف للأصول خارج عنها.
فإن قيل: ينبغي أن تكون الصدقة في الحرم لأن للمساكين بالحرم فيها حقا كالذبائح. قيل له: الذبح لم يتعلق جوازه بالحرم لأجل حق المساكين، لأنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه منه وتصدق به في غير الحرم أجزأه، ومع ذلك فإنه لا يختص ذلك بمساكين الحرم دون غيرهم، لأنه لو كان حقا لهم لكان لهم المطالبة به، ولما لم تكن لهم المطالبة به دل على أنه ليس بحق لهم وإنما هو حق الله قد لزمه اخراجه إلى المساكين على وجه القربة كالزكاة وسائر الصدقات التي لا تختص بموضع دون غيره، وأيضا لما لم تكن القربة فيها إراقة الدم وجب أن لا يختص بالحرم كالصيام.