في معصية، والثاني: جنايته على نفسه بترك الأكل. وأيضا فالمطيع والعاصي لا يختلفان فيما يحل لهما من المأكولات أو يحرم، بعد ألا ترى أن سائر المأكولات التي هي مباحة للمطيعين هي مباحة للعصاة كسائر الأطعمة والأشربة المباحة؟ وكذلك ما حرم من الأطعمة والأشربة لا يختلف في تحريمه حكم المطيعين والعصاة، فلما كانت الميتة مباحة للمطيعين عند الضرورة وجب أن يكون كذلك حكم العصاة فيها كسائر الأطعمة المباحة في غير حال الضرورة.
فإن قال قائل: إباحة الميتة رخصة للمضطر ولا رخصة للعاصي. قيل له: قد انتظمت هذه المعارضة الخطأ من وجهين، أحدهما: قولك (إباحة الميتة رخصة للمضطر) وذلك لأن أكل الميتة فرض على المضطر والاضطرار يزيل الحظر، ومتى امتنع المضطر من أكلها حتى مات صار قاتلا لنفسه، بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان حتى مات كان عاصيا لله جانيا على نفسه. ولا خلاف في أن هذا حكم المضطر إلى الميتة غير الباغي. فقول القائل (إباحة الميتة رخصة للمضطر) بمنزلة قوله لو قال: (إن إباحة أكل الخبز وشرب الماء رخصة لغير المضطر) ولا يطلق هذا أحد يعقل، لأن الناس كلهم يقولون: فرض على المضطر إلى الميتة أكلها، فلا فرق بينهما، ولما لم يختلف العاصي والمطيع في أكل الخبز وشرب الماء كذلك في أكل الميتة عند الضرورة.
وأما الوجه الثاني من الخطأ فهو قولك: (إنه لا رخصة للعاصي) وهذه قضية فاسدة بإجماع المسلمين، لأنهم رخصوا للمقيم العاصي الإفطار في رمضان إذا كان مريضا، وكذلك يرخصون له في السفر التيمم عند عدم الماء، ويرخصون للمقيم العاصي أن يمسح يوما وليلة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه رخص للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها) ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع، فبان بما وصفنا فساد هذه المقالة.
وقوله: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) وقوله: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) [المائدة: 3] كل واحد من هذين فيه ضمير لا يستغني عنه الكلام، وذلك لأن وقوع الضرورة ليس من فعل المضطر، فيكون قوله: (فلا إثم عليه) وقوله: (فإن الله غفور رحيم) [المائدة: 3] خبر له. وقوله:
(فمن اضطر) لا بد له من خبر به تم الكلام، إذ لم يكن الحكم متعلقا بنفس الضرورة وخبره الذي يتم به الكلام ضميره وهو الأكل، فكان تقديره (فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه) ثم قوله: (غير باغ ولا عاد) على قول من يقول (غير باغ) في الميتة (ولا عاد) في الأكل، فيكون البغي والعدوان حالا للآكل، وتقديره على قول من يقول: (غير باغ ولا عاد) (على المسلمين، فمن اضطر غير باغ ولا عاد على المسلمين فأكل فلا إثم عليه)