وهذا الخبر يدل على معنيين، أحدهما: أنهم كانوا مخيرين في التوجه إلى حيث شاؤوا.
والثاني: أن المنسوخ من القرآن هذا التخيير المذكور في هذه الآية بقوله: (فول وجهك شطر المسجد الحرام). وقوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس) قيل فيه: إنه أراد بذكر السفهاء ههنا اليهود وإنهم الذين عابوا تحويل القبلة، وروي ذلك عن ابن عباس والبراء بن عازب. وأرادوا به إنكار النسخ، لأن قوما منهم لا يرون النسخ. وقيل إنهم قالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك! وإنما أرادوا فتنته. فكان إنكار اليهود لتحويله عن القبلة الأولى إلى الثانية على أحد هذين الوجهين. وقال الحسن: (لما حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة من بيت المقدس قال مشركو العرب: يا محمد رغبت من ملة آبائك ثم رجعت إليها آنفا، والله لترجعن إلى دينهم! وقد بين الله تعالى المعنى الذي من أجله نقلهم الله تعالى عن القبلة الأولى إلى الثانية بقوله تعالى: (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه).
وقيل: إنهم كانوا أمروا بمكة أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا من المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كانت اليهود المجاورون للمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس، فنقلوا إلى الكعبة ليتميزوا من هؤلاء كما تميزوا من المشركين بمكة باختلاف القبلتين، فاحتج الله تعالى على اليهود في إنكارها النسخ بقوله تعالى: (قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). وجه الاحتجاج به أنه إذا كان المشرق والمغرب لله فالتوجه إليهما سواء لا فرق بينهما في العقول، والله تعالى يخص بذلك أي الجهات شاء على وجه المصلحة في الدين والهداية إلى الطريق المستقيم. ومن جهة أخرى إن اليهود زعمت أن الأرض المقدسة أولى بالتوجه إليها، لأنها من مواطن الأنبياء عليهم السلام وقد شرفها تعالى وعظمها، فلا وجه للتولي عنها. فأبطل الله قولهم ذلك بأن المواطن من المشرق والمغرب لله تعالى يخص منها ما يشاء في كل زمان على حسب ما يعلم من المصلحة فيه للعباد، إذ كانت المواطن بأنفسها لا تستحق التفضيل وإنما توصف بذلك على حسب ما يوجب الله تعالى تعظيمها لتفضيل الأعمال فيها.
قال أبو بكر هذه الآية يحتج بها من يجوز نسخ السنة بالقرآن لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس وليس في القرآن ذكر ذلك ثم نسخ بهذه الآية ومن يأبى ذلك يقول ذكر ابن عباس أنه نسخ قوله تعالى تولوا فثم وجه الله البقرة فكان التوجه إلى حيث كان من الجهات في مضمون الآية ثم نسخ بالتوجه إلى الكعبة