فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله: الحمد لله؟ أحمد الله نفسه جل ثناؤه فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا: إياك نعبد وإياك نستعين وهو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله (ص)؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلاما.
قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده وفرض عليهم تلاوته، اختبارا منه لهم وابتلاء، فقال لهم: قولوا الحمد لله رب العالمين وقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين فقوله: إياك نعبد، مما علمهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه. وذلك موصول بقوله الحمد لله رب العالمين، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: قولوا فيكون تأويل ذلك ما ادعيت؟ قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة ولم تشك أن سامعها يعرف بما أظهرت من منطقها ما حذفت، حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت قولا أو تأويل قول، كما قال الشاعر:
واعلم أنني لا أكون رمسا * إذا سار النواعج لا يسير فقال السائلون لمن حفرتم * فقال المخبرون لهم وزير قال أبو جعفر: يريد بذلك: فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما يدل على ذلك. وكذلك قول الآخر:
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا وقد علم أن الرمح لا يتقلد، وأنه إنما أراد: وحاملا رمحا. ولكن لما كان معلوما معناه اكتفى بما قد ظهر من كلامه عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه:
مصاحبا معافى، يحذفون سر واخرج إذ كان معلوما معناه وإن أسقط ذكره. فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره: الحمد لله رب العالمين لما علم بقوله عز وجل: إياك نعبد ما أراد بقوله: الحمد لله رب العالمين من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهر عليه من القول عن إبداء ما حذف.