جامع البيان - إبن جرير الطبري - ج ١ - الصفحة ٢٦٠
وأما الوجه الآخر، فأن يكون معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها، ثم حذف ذكر بين وإلى، إذ كان في نصب البعوضة ودخول الفاء في ما الثانية دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما، يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها، وكذلك يقولون في كل ما حسن فيه من الكلام دخول ما بين كذا إلى كذا، ينصبون الأول والثاني ليدل النصب فيهما على المحذوف من الكلام. فكذلك ذلك في قوله: ما بعوضة فما فوقها.
وقد زعم بعض أهل العربية أن ما التي مع المثل صلة في الكلام بمعنى التطول، وأن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا فما فوقها. فعلى هذا التأويل يجب أن تكون بعوضة منصوبة ب يضرب، وأن تكون ما الثانية التي في فما فوقها معطوفة على البعوضة لا على ما.
وأما تأويل قوله: فما فوقها: فما هو أعظم منها عندي لما ذكرنا قبل من قول قتادة وابن جريج أن البعوضة أضعف خلق الله، فإذا كانت أضعف خلق الله فهي نهاية في القلة والضعف، وإذ كانت كذلك فلا شك أن ما فوق أضعف الأشياء لا يكون إلا أقوى منه، فقد يجب أن يكون المعنى على ما قالاه فما فوقها في العظم والكبر، إذ كانت البعوضة نهاية في الضعف والقلة.
وقيل في تأويل قوله: فما فوقها في الصغر والقلة، كما يقال في الرجل يذكره الذاكر فيصفه باللؤم والشح، فيقول السامع: نعم، وفوق ذاك، يعني فوق الذي وصف في الشح واللؤم. وهذا قول خلاف تأويل أهل العلم الذين ترتضي معرفتهم بتأويل القرآن، فقد تبين إذا بما وصفنا أن معنى الكلام: إن الله لا يستحيي أن يصف شبها لما شبه به الذي هو ما بين بعوضة إلى ما فوق البعوضة. فأما تأويل الكلام لو رفعت البعوضة فغير جائز في ما إلا ما قلنا من أن تكون اسما لا صلة بمعنى التطول.
القول في تأويل قوله تعالى: فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: فأما الذين آمنوا فأما الذين صدقوا الله ورسوله. وقوله: فيعلمون أنه الحق من ربهم يعني فيعرفون أن المثل الذي ضربه الله لما ضربه له مثل. كما.
(٢٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 255 256 257 258 259 260 261 262 263 264 265 ... » »»
الفهرست