لقد عظم أمر المسلمين في المدينة، وبلغ المؤمنون غاية عزهم ومجدهم... كانت الفتوحات المتتالية تعود لصالحهم يوما بعد يوم. أما غير المؤمنين فقد كان ينظر إليهم بنظر الاحتقار في المجتمع، وهذا ما أدى إلى إضعاف روحياتهم، فأخذوا يحسون بالحقارة والضعفة من جهة، ومن جهة أخرى كانوا يمتنعون عن الإيمان. فاضطروا إلى أن يظهروا خلاف ما يبطنون، ويتظاهروا بالإيمان حتى يجبروا حقارتهم بذلك. وجاء القرآن الكريم كاشفا عن سرائرهم وفاضحا نواياهم حيث قال: «إذا جاءك المنافقون قالوا:
نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد أن المنافقين لكاذبون.
اتخذوا أيمانهم جنة» (1).
الكذب عبارة عن رد فعل لعقدة الحقارة أو الخوف أو الحالات النفسية الاخر. وبعبارة أخرى فان هذه العقد النفسية والانهيارات الداخلية للناس هي التي تظهر بمظهر الكذب في الصور المختلفة.
كلما كانت عقدة الحقارة في حياة الفرد أو الأسرة أو الأمة أشد كان رواج الكذب فيهم أكثر. إن من يصاب بالفشل في القضايا السياسية أو الاقتصادية وتنحط منزلته في أنظار الناس يكون الدافع إليه نحو الكذب أقوى، والأسرة التي تسوء سمعتها لانحراف خلقي أو لسبب آخر فتصبح مبغوضة في نظر المجتمع ويحس أفرادها بالحقارة والضعة في نفوسهم تلجأ إلى الكذب لتدارك النقائص التي أصابتها. وفي الدول التي تنعدم فيها العدالة والحرية ويديرها الحكام بنظام استبدادي مطلق، ويتملك الناس فيها خوف ورعب شديدان تروج سوق الكذب، وكذلك الأمم التي خضعت لسنين طوال إلى الظلم والاضطهاد ولم تذق طعم الاستقلال يكون تلوثها بالكذب أكثر... وبصورة موجزة فان الكذابين لا يكذبون الا للحقارة التي يحسون بها، كما صرح بذلك الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله حين قال : «لا يكذب الكاذب إلا من مهانة نفسه».