المذهب الحنفي هو أكثر المذاهب انتشارا وأعظمها إقبالا، لقوة أنصاره وكثرة دعاته في البداية والنهاية. إذ كانت نواة شهرته من غرس أبي يوسف قاضي قضاة الدولة العباسية. فهو ناشر المذهب أو مؤسسه - إن صح لنا أن نقول ذلك - وقد كان أبو يوسف وجيها في الدولة، مقبولا عند الخلفاء له منزلة لا يشاركه فيها أي أحد. فكان لا يولي قاضيا إلا من انتسب لمدرسة أبي حنيفة. واستمر القضاة في نشر المذهب في جميع الأقطار، مستمدين قوتهم من السلطة التنفيذية، حتى أصبح مذهب أبي حنيفة هو المذهب الرسمي للدولة...
وقد رأينا انتصار العباسيين لمالك بن أنس - بعد غضبهم عليه - فقد أمروا بقصر الفتوى عليه، وأعلن ذلك بأمر الدولة، ونودي - غير مرة علنا - ألا يفتي الناس إلا مالك (7). وأمروا عمالهم باستشارته في الأمر وعدم القطع دونه، فهذا المنصور يقول مالك: إن رأيت ريبة من عامل المدينة أو عامل مكة، أو أحد عمال الحجاز، في ذاتك، أو ذات غيرك، أو سوء سيرة في الرعية، فاكتب إلي بذلك. أنزل بهم ما يستحقون، وقد أكتب إلى عمالي بها أن يسمعوا منك ويطيعوك في كل ما تعهد إليهم، فانههم عن المنكر وأمرهم بالمعروف تؤجر على ذلك. أنت خليق أن تطاع ويسمع منك (8)... وعلى أي حال فإن مالك بن أنس قد لحظته الدولة وقربته، إذ وجدت منه عونا ومؤازرة (9)، فقربوه وأحسنوا إليه، ورفعوا مجلسه، ونشروا علمه وأجزلوا له العطاء، وأصاب منهم ثروة طائلة ومع هذا فهم مدينون لمالك في مؤازرتهم