بها، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط، فاعفني منه، فعافاه. وقال: أنشدني شعرا أستحسنه. فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني فأنشده:
باتوا على قلل الجبال تحرسهم * غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم * فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا * أين الأسرة والتيجان والحلل أين الوجوه التي كانت منعمة * من دونها تضرب الأستار والكلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم * تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا * فأصبحوا بعد الأكل قد أكلوا وطالما عمروا دورا لتحضنهم * ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا وطالما كنزوا الأموال وادخروا * فخلفوها على الأعداء وارتحلوا أضحت منازلهم قفرا معطلة * وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظن أن بادرة تبدو منه إليه (26).
في هذا العصر ولد أحمد بن حنبل وشب واشتغل بالعلم وطلب الحديث.
ولما انفجرت فتنة خلق القرآن كان أحد أبطالها الذين صبروا على ما ابتلوا به، ولما انفرجت الأزمة، اشتهر أمره وعقدت له زعامة أهل الحديث. ولما توفي اصطنع له مذهب في الأصول والفروع ودعي العامة إلى تقليده، وانتصر له بعض العلماء ممن سينسبون إلى مذهبه، وسيسمون ب " الحنابلة ". وأضيف مذهبه إلى باقي المذاهب الفقهية التي انتشر تقليدها بين الجماهير المسلمة طيلة قرون خلت وإلى الآن.
* * *