منها في رجب (1) قاصدا حصن الشقيف، وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتابا من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم، ويأمرونهم بتحصين البلد، والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها. ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف، واستدعى من فوره رجلا من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتابا على ألسنتهم إلى أهل الشقيف، يحذر الملك من الوزير، والوزير من الملك، ويرمي الخلف بين الدولة. فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته، وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين (2) من رجب وأجلاهم إلى صور، وبعث بالأنفال إلى دمشق، ثم ركب جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها، فنهب وقتل وأرعب وكر راجعا مؤيدا منصورا، فنزل على حصن الأكراد لمحبته في المرج، فحمل إليه أهله من الفرنج الإقامات فأبى أن يقبلها وقال: أنتم قتلتم جنديا من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار، ثم سار فنزل على حمص، ثم منها إلى حماة، ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى، ثم سار ليلا وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة إنطاكية.
فتح إنطاكية على يد السلطان الملك الظاهر وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير، يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلا، وعدد بروجها مائة وستة وثلاثون برجا، وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة، كان نزوله عليها في مستهل شهر رمضان، فخرج إليه أهلها يطلبون منه الأمان، وشرطوا شروطا له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها، ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره، وغنم منها شيئا كثيرا، وأطلق للأمراء أموالا جزيلة، ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا، كل هذا في مقدار أربعة أيام. وقد كان الأغريس صاحبها وصاحب طرابلس، من أشد الناس أذية للمسلمين، حين ملك التتار حلب وفر الناس منها، فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للاسلام ناصرا وللصليب دامغا كاسرا، ولله الحمد والمنة، وجاءت البشارة بذلك مع البريدية، فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة، وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها، فأرسل إليهم أستاذ داره الأمير آقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها، وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة، وعاد السلطان مؤيدا منصورا، فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة، وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحا بنصرة الاسلام على الكفرة