إلى أن أطفأ سرج النجوم، ومزقت أديم السماء، ومحت ما فوقه من الرقوم، فكنا كما قال تعالى (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) [البقرة: 19] ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق، لا عاصم لخطف الابصار، ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار. وفر الناس نساء ورجالا وأطفالا، ونفروا من دورهم خفافا وثقالا، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فاعتصموا بالمساجد الجامعة، وأذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة، بوجوه عانية، ونفوس عن الأهل والمال سالية، ينظرون من طرف خفي، ويتوقعون أي خطب جلي، قد انقطعت من الحياة علقهم، وعميت عن النجاة طرقهم، ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون، وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون، إلى أن أذن بالركود، وأسعف الهاجدون بالهجود، فأصبح كل مسلم على رفيقه، ويهنيه بسلامة طريقه، ويرى أنه قد بعث بعد النفخة، وأفاق بعد الصيحة والصرخة، وأن الله قد رد له الكرة، وأحياه بعد أن كان يأخذه على غرة، ووردت الاخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار، والأشجار في القفار، وأتلفت خلقا كثيرا من السفار، ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار. إلى أن قال " ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا، فالامر أعظم، ولكن الله سلم، ونرجو أن الله قد أيقظنا بما به وعظنا، ونبهنا بما فيه ولهنا، فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا، ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا، إلا أهل بلدنا فما قص الأولون مثلها في المثلات، ولا سبقت لها سابقة في المعضلات، والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها، ولا يخبر عنا، ونسأل الله أن يصرف عنا عارض الحرص والغرور، ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور ".
وفيها كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الاسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب " هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات ". وكتب أيضا " أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس، وحياه للدنيا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف المملوك من الامر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به العافية في سرور، ولا يزيد على سيبه الحال بقوله:
ألم تر أن المرء تدوي يمينه * فيقطعها عمدا ليسلم سائره ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفرا فقد جلب إلى الجسد بفعله نفعا، ودفع عنه ضررا، وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود، وآخر سنوه أول كل غزوه، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها، وتجشم الكلف وحملها، فهو إذا صرف