كيف؟ وقد اتفق العلماء من الأصولين والأخباريين، بل العقلاء أجمع على عدم لزوم الاجتناب عما يحتمل وجود للمفسدة فيه في الشبهة الموضوعية، ولو كان العقل مستقلا بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجبا فيها أيضا، إذ لا فرق بين الشبهة الحكمية الموضوعية من هذه الجهة.
فتحصل مما ذكرناه أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لا تعارض قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس عن الحجة على التكليف.
(أما الجهة الثالثة) وهي ملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان مع أدلة وجوب الاحتياط فملخص الكلام فيها انه على تقدير تمامية دلالتها على وجوب الاحتياط وجوبا طريقيا، تسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها إذ على تقدير وجوب الاحتياط بهذا النحو يتم البيان من قبل المولى، وتنجز الحكم الواقعي على تقدير ثبوته، فلا يبقى موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فكانت أدلة وجوب الاحتياط على تقدير تمامية دلالتها واردة على القاعدة، وسيجئ الكلام في تمامية دلالتها وعدمها قريبا عند التعرض لذكر أدلة الأخباريين إن شاء الله تعالى.
(الوجه الخامس) من الوجوه التي استدل بها على البراءة الاستصحاب، وتقريبه على نحوين، لأن الأحكام الشرعية لها مرتبتان:
(الأولى) - مرتبة الجعل والتشريع، والحكم الشرعي في هذه المرتبة متقوم بفرض الموضوع لا بتحققه فعلا، إذ التشريع غير متوقف على تحقق الموضوع خارجا، بل يصح جعل الحكم على موضوع مفروض الوجود على نحو القضية الحقيقية، فصح تشريع القصاص على القاتل وان لم يقتل أحد أحدا إلى الأبد.