الصفة الأولى: نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله: * (بنعمة ربك) * يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له: إنه مجنون.
الصفة الثانية: قوله: * (وإن لك لأجرا غير ممنون) * وفي الممنون قولان: أحدهما: وهو قول الأكثرين، أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال: منه السير أي أضعفه، والمنين الضعيف ومن الشيء إذا قطعه، ومنه قول لبيد: غبش كواسب ما يمن طعامها (c) يصف كلابا ضارية، ونظيره قوله تعالى: * (عطاء غير مجذوذ) * (هود: 108).
والقول الثاني: وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي، إنه غير مقدر عليك بسبب المنة، قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه: إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل؟ قال قوم معناه: إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجرا عظيما دائما، وقال آخرون: المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات، في دعاء الخلق إلى الله، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: * (بنعمة ربك) * وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال: * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) * (ص: 86) أي لست متكلفا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع، وقال آخرون: إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمدا بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم، فكأن كل واحد منهم كان مختصا بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم، وفيه دقيقة