وقد اعتبر أصحابنا ذلك في الميت في دار الاسلام أو في دار الحرب إذا لم يعرف أمره قبل ذلك في إسلام أو كفر، أنه ينظر إلى سيماه فإن كانت عليه سيما أهل الكفر من شد زنار أو عدم ختان وترك الشعر على حسب ما يفعله رهبان النصارى، حكم له بحكم الكفار ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه، وإن كان عليه سيما أهل الاسلام حكم له بحكم المسلمين في الصلاة والدفن وإن لم يظهر عليه شئ من ذلك، فإن كان في مصر من الأمصار التي للمسلمين فهو مسلم، وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر، فجعلوا اعتبار سيماه بنفسه أولى منه بموضعه الموجود فيه، فإذا عدمنا السيما حكمنا له بحكم أهل الموضع، وكذلك اعتبروا في اللقيط. ونظيره أيضا قوله تعالى: (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) [يوسف: 26 و 27] فاعتبر العلامة، ومن نحوه قوله تعالى:
(ولتعرفنهم في لحن القول) [محمد: 30] وأخوة يوسف عليه السلام لطخوا قميصه بدم وجعلوه علامة لصدقهم، قال الله تعالى: (وجاؤوا على قميصه بدم كذب) [يوسف:
18].
وقوله تعالى (لا يسألون الناس إلحافا) يعني والله أعلم: إلحاحا وإدامة للمسألة، لأن إلحاف المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها، وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة.
فإن قيل: فإنما قال الله عز وجل: (لا يسألون الناس إلحافا) فنفى عنهم الإلحاف في المسألة ولم ينف عنهم المسألة رأسا؟ قيل له: في فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدل على نفي المسألة رأسا، وهو قوله تعالى: (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) فلو كانوا أظهروا المسألة وإن لم تكن إلحافا لما حسبهم أحد أغنياء، وكذلك قوله تعالى: (من التعفف) لأن التعفف هو القناعة وترك المسألة، فدل ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلا. ويدل على أن التعفف هو ترك المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله). وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا تمنع الزكاة وإن كانت سرية وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه، فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء حاجة ماسة فهو غير غني بها لأن الغنى هو ما فضل عن مقدار الحاجة.
واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنيا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: (إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوي مائتي درهم لم تحل له الزكاة، وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له الزكاة). وقال مالك في رواية ابن