أحدها أن قوله: (أنفقوا) أمر والأمر عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب، وقوله: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) لا دلالة فيه على أنه ندب، إذ لا يختص النهي عن اخراج الردي بالنفل دون الفرض، وأن يجب عليه اخراج فضل ما بين الردي إلى الجيد، لأنه لا ذكر له في الآية، وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى، فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في إيجاب الصدقة. ومع ذلك لو دلت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه اخراج غير الردي الذي أخرجه، لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى الندب، لأنه جائز أن يبتدئ الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في بعض ما اقتضاه عمومه، ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على الخصوص وصرفه عن العموم: ولذلك نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع.
وقوله تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) عموم في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها. ويحتج به لأبي حنيفة رضي الله عنه في إيجابه العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض بزراعتها. ومما يدل من فحوى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة قوله تعالى في نسق التلاوة: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا يتسامح بالردي عن الجيد إلا على إغماض وتساهل، فدل ذلك على أن المراد الصدقة الواجبة، والله أعلم، إذا ردها إلى الإغماض في اقتضاء الدين، ولو كان تطوعا لم يكن فيها إغماض، إذا له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن لا يتصدقون، وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة.
وأما قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نوعين من التمر: الجعرور ولون الحبيق) قال: (وكان ناس يخرجون شر ثمارهم في الصدقة فنزلت: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون)) وروي عن البراء بن عازب مثل ذلك، قال في قوله تعالى: (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه): (لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطي لما أخذه إلا على إغماض وحياء). وقال عبيدة: (إنما ذلك في الزكاة والدرهم الزائف أحب إلي من الثمرة) وعن ابن معقل في هذه الآية قال: (ليس في أموالهم خبيث ولكنه الدرهم القسي والزيف ولستم بآخذيه) قال: (لو كان لك على رجل حق لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من الثمر إلا الجيد إلا أن تغمضوا فيه، تجوزوا فيه). وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه: (ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار) (1) رواه