ورد: أن رجلا شتم أبا بكر بحضرة النبي (ص) وهو ساكت، فلما ابتدأ لينتصر منه، قام رسول الله (ص) وقال مخاطبا له: " إن الملك كان يجيب عنك، فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان، فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان ".
فكل فعل أو قول يصدر من شخص بالنسبة إلى غيره ظلما، إن كان له في الشرع قصاص وغرامة، فيجب ألا يتعدى عنه، وإن كان العفو عن الجائر أيضا أفضل وأولى وأقرب إلى الورع والتقوى، وإن لم يرد له بخصوصه من الشرع حكومة معينة، وجب أن يقتصر في الانتقام وما يحصل به التشفي على ما ليس فيه حرمة ولا كذب، مثل أن يقابل الفحش والذم وغيرهما من الأذايا التي لم يقدر لها في الشرع حكومة معينة، بقوله: يا قليل الحياء.
ويا سئ الخلق. ويا صفيق الوجه... وأمثال ذلك، إذا كان متصفا بها ومثل قوله: جزاك الله وانتقم منك. ومن أنت؟ وهل أنت إلا من بني فلان ومثل قوله: يا جاهل. ويا أحمق. وهذا ليس فيه كذب مطلقا، إذ ما من أحد إلا وفيه جهل وحمق، (أما الأول) فظاهر، (وأما الثاني) فلما ورد من أن الناس كلهم حمقى في ذات الله.
والدليل على جواز هذا القدر من الانتقام، قول النبي (ص) " المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم " (19) وقول الكاظم (ع) في رجلين يتسابان: " البادئ منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يتعد المظلوم " (20). وهما يدلان على جواز الانتصار لغير البادئ من دون وزر ما لم يتعد، ومعلوم أن المراد بالسبب فيهما أمثال الكلمات المذكورة دون الفحش والكلمات الكاذبة، ولا ريب في أن الاقتصار على مجرد ما وردت به الرخصة بعد الشروع في الجواب مشكل، ولعل السكوت عن أصل الجواب وحوالة الانتقام إلى رب الأرباب أيسر وأفضل، ما لم يؤد إلى فتور الحمية وللغيرة، إذ أكثر الناس لا يقدر على ضبط نفسه عند فور الغضب، لاختلاف حالهم في حدوث