كلهم عن الحملة، فلا قوة إلا بالله، وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض، فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء.
هذا وملك الانكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله، وأهبة نزاله، واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة، يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم، فلم يتقدم إليه أحد من الفرسان، ولا نهره بطل من الشجعان، فعند ذلك كر السلطان راجعا، وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من بيت المال فلسا. ثم حصل لملك الانكليز بعد ذلك مرض شديد، فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم، ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده (1)، وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان، ورضي بما رسم به السلطان، وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر شعبان، وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم، وحلف الامراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم، واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة السلاطين، وفرح كل من الفريقين فرحا شديدا، وأظهروا سرورا كثيرا، ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاث (2) سنين وستة أشهر، وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية، وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية، وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة، وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج.
وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها، وسدد أموره وأكدها، وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها، وزاد وقف الصوفية، وعزم على الحج عامه ذلك، فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك، ويتأهبوا له، فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد من استيلاء الفرنج عليها، ومن كثرة المظالم بها، وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك عامك هذا، والعدو مخيم بعد بالشام، وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا، ثم يمكروا ويغدروا، فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك، واستمر مقيما بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن،