ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة، وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث، وشهد عند ابن الدامغاني فقبله، ولازم مسجده خمسا وخمسين سنة، يقرئ الناس ويفقههم، ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء، وكان من أنزه الناس وأعفهم، لم يقبل من سلطان عطية، ولا من صاحب هدية، ولم يغير ملبسه ولا مأكله، ولم يأخذ على القضاء أجرا ولم يستنب أحدا، بل كان يباشر القضاء بنفسه، ولم يحاب مخلوقا، وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة، إذا قامت عنده قرائن التهمة، حتى يقروا، ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا. وقد صنف كتابا في ذلك، ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن، واستشهد له بقوله تعالى (إن كان قميصه قد من قبل) الآية [يوسف: 26]. وشهد عنده رجل من كبار الفقهاء والمناظرين يقال له المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني، فلم يقبله، لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب، فقال له المدعي: إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب، فقال القاضي الشاشي (1): والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما، ولرددت شهادتهما. وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله، فقال: لأي شئ ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت؟ فقال له: لا أقبل لك شهادة، فإني رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة، فلا أقبلك. توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة، ودفن بالقرب من ابن شريح.
أبو عبد الله الحميدي محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد، الأندلسي، من جزيرة يقال لها برقة (2) قريبة من الأندلس، قدم بغداد فسمع بها الحديث، وكان حافظا مكثرا أديبا ماهرا، عفيفا نزها، وهو صاحب الجمع بين الصحيحين، وله غير ذلك من المصنفات، وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب، وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة، وقد جاوز التسعين (3)، وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد.
هبة الله بن الشيخ أبي الوفاء بن عقيل كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة، ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالا جزيلة فلم يفد شيئا فقال له ابنه ذات يوم: يا أبت إنك قد أكثرت الأدوية والأدعية، ولله في اختيار فدعني