الضجيج، فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم، وطابت الريح للبطش فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء، ودخلت البلد سالمة ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا، وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت، فيها أربعمائة غرارة (1)، وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شئ كثير، وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة، وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم، وشدوا الزنانير، واستصحبوا في البطشة معهم شيئا من الخنازير، وقدموا بها على مراكب الفرنج فاعتقدوا أنهم منهم وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس، فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد، فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح، وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة، فعبرت الميناء فامتلأ الثغر بها خيرا، فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية. وكانت البلد يكتنفها برجان يقال لأحدهما برج الديان، فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شئ من الأسوار والابرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا، فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين، ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها، وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا، وأخرى خلفها فيها حطب محض، فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين، واحترقت الأخرى، وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو قد أحكموه فيها، فلما أرسلوا النفط على برج الديان انعكس الامر عليهم بقدرة الله تعالى، وذلك لشدة الهواء تلك الليلة، فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت، وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها، فأشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين، في قوله تعالى (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) [الحشر: 2].
فصل وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق، فبرز إليهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار، وسرى حريقه إلى السقوف، وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء، ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل، فحصل عندهم وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام، فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي، ولله الحمد والمنة.