ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فردا ذليلا وا؟ حساب عسير؟
وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور ووددت أنك ما وليت ولاية * يوما ولا قال الأنام أمير وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير وحشرت عريانا حزينا باكيا * قلقا وما لك في الأنام مجير أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبدا وأنت معذب مهجور مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد. وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والامراء بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شئ امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا: إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا الا يجئ إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجئ يشهد له؟ فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه: إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصه فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم. فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد.
وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه، فقال له السلطان: أليس الله تعالى يقول: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [الفرقان: 63] وقال (وأعرض عن الجاهلين) [الأعراف: 199] فسكت الشيخ ولم يحر جوابا. وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائرا مرات، ووقف عليه وقفا.
وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال:
وكان نور الدين محافظا على الصلوات في أوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها. قال: وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس