الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك، فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك. وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الحديث وإسماعه. قال ابن الأثير: وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الامراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الامراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.
وقد سمع عليه جزء حديث وفيه " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدا السيف " فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والامراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فرحمه الله.
وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له هذا تأويل رؤياك. وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم. وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده: اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب، وقيل إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة: كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور؟ ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شئ ولا يقبل من أحد شيئا، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس به في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له:
مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور إن قيل نور الدين رحت مسلما * فاحذر بأن تبقى وما لك نور أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور عطلت كاسات المدام تعففا * وعليك كاسات الحرام تدور ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فردا وجاءك منكر ونكير؟