(الامر الثالث) - ان شيخنا الأنصاري (ره) جعل الشك في التكليف الذي هو مجرى للبراءة على اقسام ثمانية، باعتبار ان الشبهة (تارة) تكون وجوبية، و (أخرى) تحريمية. وعلى كلا التقديرين اما ان يكون منشأ الشك فقدان النص أو اجماله أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية، كما في الشبهات الموضوعية. وتعرض للبحث عن كل قسم مستقلا. والوجه في هذا التقسيم والبحث عن كل قسم مستقلا امر ان: (الأول) اختصاص بعض أدلة البراءة بالشبهة التحريمية، كقوله عليه السلام: (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي). (الثاني) - ان النزاع المعرف بين الأصوليين والأخباريين أيضا مختص بها. واما الشبهة الوجوبية فوافق الأخباريون الأصوليين في الرجوع إلى البراءة الا المحدث الاستربادي. ولا يخفى ان الأقسام غير منحصرة في ثمانية، إذ من الشك في التكليف الذي هو مورد للبراءة دوران الامر بين الوجوب والحرمة والإباحة.
وعليه كانت الأقسام اثنا عشر لا ثمانية.
وجعل صاحب الكفاية (ره) البحث عاما لمطلق الشك في التكليف الجامع بين جميع الأقسام المذكورة، إلا فرض تعارض النصين، فأخرجه من هذا البحث، بدعوى انه ليس موردا للبراءة، لان المتعين فيه الرجوع إلى المرجحات، ومع فقدها يتخير. فالبحث عنه راجع إلى التعادل والترجيح لا إلى البراءة لأن أصالة البراءة تكون مرجعا عند عدم الدليل، ومع وجود الدليل تعيينا - كما إذا كان أحد النصين راجحا على الآخر - أو تخييرا كما إذا لم يكن لا حدهما ترجيح على الآخر لا تصل النوبة إلى البراءة.
أقول: أما ما صنعه الشيخ (ره) من التقسيم والتعرض للبحث عن كل قسم مستقلا، ففيه ان ملاك جريان البراءة في جميع الأقسام واحد، وهو عدم وصول التكليف إلى المكلف. وعمدة أدلة القول بالبراءة أيضا شاملة لجميع الأقسام.