في مقابلة النساء إذ النساء هن البالغات، وكذا المراد من الأبناء هم الرجال البالغون، قالوا: إنه كان يأمر بقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج عليه والتجمع لإفساد أمره. وأكثر المفسرين على أن المراد بالآية الأطفال دون البالغين، وهذا هو الأولى لوجوه:
الأول: حملا للفظ الأبناء على ظاهره. الثاني: أنه كان يتعذر قتل جميع الرجال على كثرتهم. الثالث: أنهم كانوا محتاجين إليهم في استعمالهم في الصنائع الشاقة. الرابع: أنه لو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عليه السلام في التابوت حال صغره معنى، أما قوله وجب حمله على الرجال ليكون في مقابلة النساء ففيه جوابان: الأول: أن الأبناء لما قتلوا حال الطفولية لم يصيروا رجالا، فلم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم، أما البنات لما لم يقتلن بل وصلن إلى حد النساء جاز إطلاق اسم النساء عليهن. الثاني: قال بعضهم: المراد بقوله: * (ويستحيون نساءكم) *، أي يفتشون حياء المرأة أي فرجها هل بها حمل أم لا، وأبطل ذلك بأن ما في بطونهن إذا لم يكن للعيون ظاهرا لم يعلم بالتفتيش ولم يوصل إلى استخراجه باليد.
البحث الرابع: في سبب قتل الأبناء ذكروا فيه وجوها. أحدها: قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا فخافوا ذلك واتفقت كلمتهم على إعداد رجال معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلا ذبحوه، فلما رأوا كبارهم يموتون وصغارهم يذبحون خافوا الفناء فحينئذ لا يجدون من يباشر الأعمال الشاقة، فصاروا يقتلون عاما دون عام. وثانيها: قول السدي: إن فرعون رأى نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكهنة وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القبط على يده، وثالثها: أن المنجمين أخبروا فرعون بذلك وعينوا له السنة فلهذا كان يقتل أبناءهم في تلك السنة والأقرب هو الأول، لأن الذي يستفاد من علم التعبير وعلم النجوم لا يكون أمرا مفصلا وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغيب معجزا بل يكون أمرا مجملا والظاهر من حال العاقل أن لا يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه، فإن قيل:
إن فرعون كان كافرا بالله فكان بأن يكون كافرا بالرسل أولى، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبراهيم عليه السلام عنه. قلنا: لعل فرعون كان عارفا بالله وبصدق الأنبياء إلا أنه كان كافرا كفر الجحود والعناد أو يقال: إنه كان شاكا متحيرا في دينه وكان يجوز صدق إبراهيم عليه السلام فأقدم على ذلك الفعل احتياطا.
البحث الخامس: اعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة من وجوه، أحدها: أن هذه الأشياء التي ذكرها الله تعالى لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة صار تخليص الله إياهم من هذه المحن من أعظم النعم وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم وتعظيم النعمة يوجب الانقياد والطاعة، ويقتضي نهاية قبح المخالفة والمعاندة، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه النعمة العظيمة مبالغة في إلزام الحجة عليهم وقطعا لعذرهم. وثانيها: أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل وكان خصمهم في نهاية