تحت يد الغير بحيث يتصرف فيه كما يشاء لا سيما إذا استعمله في الأعمال الشاقة الصعبة القذرة، فإن ذلك يكون من أشد أنواع العذاب، حتى أن من هذه حالته ربما تمنى الموت فبين الله تعالى عظيم نعمه عليهم بأن نجاهم من ذلك، ثم إنه تعالى أتبع ذلك بنعمة أخرى أعظم منها، فقال: * (يذبحون أبناءكم) * ومعناه يقتلون الذكورة من الأولاد دون الإناث. وههنا أبحاث.
البحث الأول: أن ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه، أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضي فناء الرجال، وذلك يقتضي انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وذلك يقضي آخر الآمر إلى هلاك الرجال والنساء، وثانيها: أن هلاك الرجال يقتضي فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى وقد انقطع عنها تعهد الرجال وقيامهم بأمرها الموت، لما قد يقع إليها من نكد العيش بالانفراد فصارت هذه الخصلة عظيمة في المحن، والنجاة منها في العظم تكون بحسبها، وثالثها: أن قتل الولد عقيب الحمل الطويل وتحمل الكد والرجاء القوي في الانتفاع بالمولود من أعظم العذاب، لأن قتله والحالة هذه أشد من قتل من بقي المدة الطويلة مستمتعا به مسرورا بأحواله، فنعمة الله من التخليص لهم من ذلك بحسب شدة المحنة فيه، ورابعها: أن الأبناء أحب إلى الوالدين من البنات، ولذلك فإن أكثر الناس يستثقلون البنات ويكرهونهن وإن كثر ذكرانهم، ولذلك قال تعالى: * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به) * (النحل: 58) الآية، ولذلك نهى العرب عن الوأد بقوله: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) * (الإسراء: 31) وإنما كانوا يئدون الإناث دون الذكور، وخامسها: أن بقاء النسوان بدون الذكران يوجب صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان.
البحث الثاني: ذكر في هذه السورة * (يذبحون) * بلا واو وفي سورة إبراهيم ذكره مع الواو، والوجه فيه أنه إذا جعل قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * مفسرا بقوله: * (يذبحون أبناءكم) * لم يحتج إلى الواو، وأما إذا جعل قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * مفسرا بسائر التكاليف الشاقة سوى الذبح وجعل الذبح شيئا آخر سوى سوء العذاب، احتيج فيه إلى الواو، وفي الموضعين يحتمل الوجهين، إلا أن الفائدة التي يجوز أن تكون هي المقصودة من ذكر حرف العطف في سورة إبراهيم أن يقال: إنه تعالى قال قبل تلك الآية: * (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله) * (إبراهيم:) والتذكير بأيام الله لا يحصل إلا بتعديد نعم الله تعالى، فوجب أن يكون المراد من قوله: * (يسومونكم سوء العذاب) * نوعا من العذاب، والمراد من قوله: * (ويذبحون أبناءكم) * نوعا آخر ليكون التخلص منهما نوعين من النعمة. فلهذا وجب ذكر العطف هناك، وأما في هذه الآية لم يرد الأمر إلا بتذكير جنس النعمة وهي قوله: * (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (البقرة: 40، 47، 122) فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذبح أو غيره كان تذكير جنس النعمة حاصلا فظهر الفرق.
البحث الثالث: قال بعضهم: أراد بقوله: * (يذبحون أبناءكم) * الرجال دون الأطفال ليكون