على وجود الصانع الحكيم وعلى صدق موسى عليه السلام تقرب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمل النظر الدقيق والاستدلال الشاق. وثانيها: أنهم لما عاينوا ذلك صار داعيا لهم إلى الثبات على تصديق موسى والانقياد له وصار ذلك داعيا لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى عليه السلام والإقدام على تكذيب فرعون. وثالثها: أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله فإنه لا عز في الدنيا أكمل مما كان لفرعون ولا شدة أشد مما كانت ببني إسرائيل، ثم إن الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلا والذليل عزيزا، وذلك يوجب انقطاع القلب عن علائق الدنيا والإقبال بالكلية على خدمة الخالق والتوكل عليه في كل الأمور، وأما النعم الحاصلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر هذه القصة فكثيرة، أحدها: أنه كالحجة لمحمد صلى الله عليه وسلم على أهل الكتاب لأنه كان معلوما من حال محمد عليه الصلاة والسلام أنه كان أميا لم يقرأ ولم يكتب ولم يخالط أهل الكتاب فإذا أورد عليهم من أخبارهم المفصلة ما لا يعلم إلا من الكتب علموا أنه أخبر عن الوحي وأنه صادق، فصار ذلك حجة له عليه السلام على اليهود وحجة لنا في تصديقه. وثانيها: أنا إذا تصورنا ما جرى لهم وعليهم من هذه الأمور العظيمة علمنا أن من خالف الله شقي في الدنيا والآخرة ومن أطاعه فقد سعد في الدنيا والآخرة، فصار ذلك مرغبا لنا في الطاعة ومنفرا عن المعصية. وثالثها: أن أمة موسى عليه السلام مع أنهم خصوا بهذه المعجزات الظاهرة والبراهين الباهرة، فقد خالفوا موسى عليه السلام في أمور حتى قالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) *، وأما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمع أن معجزتهم هي القرآن الذي لا يعرف كونه معجزا إلا بالدلائل الدقيقة انقادوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وما خالفوه في أمر البتة، وهذا يدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من أمة موسى عليه السلام. وبقي على الآية سؤالان: السؤال الأول: أن فلق البحر في الدلالة على وجود الصانع القادر وفي الدلالة على صدق موسى كالأمر الضروري، فكيف يجوز فعله في زمان التكليف؟ والجواب: أما على قولنا فظاهر، وأما المعتزلة فقد أجاب الكعبي الجواب الكلي بأن في المكلفين من يبعد عن الفطنة والذكاء ويختص بالبلادة وعامة بني إسرائيل كانوا كذلك، فاحتاجوا في التنبيه إلى معاينة الآيات العظام كفلق البحر ورفع الطور وإحياء الموتى، ألا ترى أنهم بعد ذلك مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)، وأما العرب فحالهم بخلاف ذلك، لأنهم كانوا في نهاية الكمال في العقول، فلا جرم، اقتصر الله تعالى معهم على الدلائل الدقيقة والمعجزات اللطيفة.
السؤال الثاني: أن فرعون لما شاهد فلق البحر وكان عاقلا فلا بد وأن يعلم أن ذلك ما كان من فعله بل لا بد من قادر عالم مخالف لسائر القادرين، فكيف بقي على الكفر مع ذلك؟ فإن قلت: إنه كان عارفا بربه إلا أنه كان كافرا على سبيل العناد والجحود. قلت: فإذا عرف ذلك بقلبه فكيف استخار توريط نفسه في المهلكة ودخول البحر مع أنه كان في تلك الساعة كالمضطر