عليهم على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بعهد وذمة، أن لا تكون الذلة مضروبة عليهم. وذلك خلاف ما وصفهم الله به من صفتهم، وخلاف ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضا بذلك فساد قول هذا القائل أيضا. ولكن القول عندنا أن الباء في قوله: * (إلا بحبل من الله) * أدخلت لان الكلام الذي قبل الاستثناء مقتض في المعنى الباء، وذلك أن معنى قولهم: * (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا) *: ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا، ثم قال: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه، ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس، كما قيل: * (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) * فالخطأ وإن كان منصوبا بما عمل فيما قبل الاستنثاء، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى إلا خطأ، فإن له قتله كذلك، ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ، فكذلك قوله: * (أينما ثقفوا إلا بحبل من الله) * وإن كان الذي جلب الباء التي بعد إلا الفعل الذي يقتضيها قبل إلا، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله بمعنى أن القوم إذا لقوا، فالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكل حال، ولكن معناه ما بينا آنفا.
القول في تأويل قوله تعالى: * (وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق) *.
يعني تعالى ذكره: * (وباءوا بغضب من الله) *: وتحملوا غضب الله، فانصرفوا به مستحقيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى المسكنة، وأنها ذل الفاقة والفقر وخشوعهما، ومعنى الغضب من الله فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: * (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله) * يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: أي بوؤوهم الذي باءوا به من غضب الله، وضرب الذلة عليهم، بدل مما كانوا يكفرون بآيات الله، يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه. * (ويقتلون الأنبياء بغير حق) * يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداء على الله، وجراءة عليه بالباطل، وبغير حق استحقوا منهم القتل.
فتأويل الكلام: ألزموا الذلة بأي مكان لقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمليه، وألزموا ذل الفاقة، وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله، وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلما واعتداء.