إنما هو بيع الأعيان لا بيع المنافع، لأن بيع المنافع جنس برأسه، وإذا ثبت أن المنافع لا تسمى مالا حقيقة لم ترد على الحد لأن المجاز لا يدخل في الحدود. فإن قيل: قد نص الشافعي رحمه الله تعالى على أن الإجارة بيع منفعة كما نقله الإسماعيلي في كتاب الاصطلام. أجيب أنه محمول على ضرب من التوسع كما مر لأن المنافع يقدر وجودها لأجل صحة العقد، وما دخله التقدير لا يكون حقيقة كما يقدر الميت حيا ليملك الدية وتورث عنه. وحده بعضهم بأنه عقد معاوضة مالية يفيد ملك عين أو منفعة على التأبيد فدخل بيع حق الممر ونحوه وخرجت الإجارة بقيد التأقيت فإنها ليست بيعا، ولهذا لا تنعقد بلفظه كما مر، والقرض بقيد المعاوضة فإنه لا يسمى معاوضة عرفا، وعقد النكاح والخلع والصلح عن الدم بقيد الملك، فإن الزوج لا يملك منفعة البضع وإنما يملك أن ينتفع به، والزوجة والجاني لا يملكان شيئا، وإنما يستفيدان رفع سلطنة الزوج ، ومستحق القصاص على أن النكاح خرج بقيد المعاوضة أيضا فإنه لا يسمى معاوضة عرفا. وهذا الحد أولى من الأول لما لا يخفى. والأصل في الباب قبل الاجماع آيات كقوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) *، وقوله تعالى: * (وأحل الله البيع) *. وأظهر قولي الشافعي أن هذه الآية عامة في كل بيع إلا ما خص بالسنة فإنه (ص) نهى عن بيوع، والثاني: أنها مجملة والسنة مبينة لها. وتظهر فائدة الخلاف في الاستدلال بها في مسائل الخلاف، فعلى الأول يستدل بها وعلى الثاني لا يستدل، وأحاديث كحديث: سئل النبي (ص) أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور، أي لا غش فيه ولا خيانة. رواه الحاكم وصححه. وحديث: إنما البيع عن تراض. وأركانه كما في المجموع ثلاثة، وهي في الحقيقة ستة: عاقد وهو بائع ومشتر، ومعقود عليه وهو ثمن ومثمن، وصيغة وهي إيجاب وقبول. وكان الأولى للمصنف أن يقدم الكلام على العاقد ثم المعقود عليه ثم الصيغة، لكنه بدأ بها كما قال الشارح لأنها أهم للخلاف فيها، وأولى من ذلك أن يقال لأن العاقد والمعقود عليه لا يتحقق إلا بها، وعبر عنها بالشرط خلاف تعبيره في المجموع ك الغزالي بأركان البيع ، والتعبير بالركن أولى. نعم قد يراد بالشرط ما لا بد منه فيساوي التعبير بالركن، فقال: (شرطه) أي البيع صيغة، وهي (الايجاب) من البائع، وهو ما يدل على التمليك بعوض دلالة ظاهرة، (كبعتك) بكذا (وملكتك) بكذا، وهذا مبيع منك بكذا أو أنا بائعه لك بكذا كما بحثه الأسنوي وغيره قياسا على الطلاق، وكهذا لك بكذا كما نص عليه في الام . تنبيه: عبارة المحرر: كبعتك أو ملكتك، وهي أولى لأنها تدل على الاكتفاء بأحدهما، بخلاف عبارة المصنف.
(والقبول) من المشتري، وهو ما يدل على التمليك دلالة ظاهرة، (كاشتريت وتملكت وقبلت) ورضيت كما ذكره القاضي حسين عن والد الروياني، ونعم في الجواب كما سيأتي وتوليت ونحوها، وبعت على ما نقله في شرح المهذب عن أهل اللغة والفقهاء ، فلا يصح البيع بدون إيجاب وقبول، حتى إنهما يشترطان في عقد تولي الأب طرفيه كالبيع لماله من طفله وعكسه فلا يكفي أحدهما، إذ معنى التحصيل غير معنى الإزالة، وكالطفل المجنون وكذا السفيه إن بلغ سفيها، وإلا فوليه الحاكم فلا يتولى الطرفين لأن شفقته ليست كشفقة الأب، فلو وكل الحاكم الأب في هذه الصورة لم يتول الطرفين لأنه نائب عن الحاكم فلا يزيد عليه. وهل للأب أن يبيع مال أحد ابنيه من الآخر وهما تحت حجره؟ فيه وجهان، والظاهر منهما الصحة.
وإنما احتيج في البيع إلى الصيغة لأنه منوط بالرضا لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * ولقوله (ص): إنما البيع عن تراض صححه ابن حبان. والرضا أمر خفي لا يطلع عليه، فأنيط الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة، فلا ينعقد بالمعطاة إذ الفعل لا يدل بوضعه، فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كل صاحبه بما دفع إليه إن بقي، وببدله إن تلف. وقال الغزالي: للبائع أن يتملك الثمن الذي قبضه إن ساوى قيمة ما دفعه لأنه مستحق ظفر بمثل حقه والمالك راض. هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلا مطالبة لطيب النفس بها. واختلاف العلماء فيها نقله في المجموع عن ابن أبي عصرون وأقره قال: وخلاف المعاطاة في البيع يجري في الإجارة والرهن والهبة ونحوها، قال في الذخائر: وصورة المعاطاة أن يتفقا على ثمن ومثمن، ويعطيا من غير إيجاب ولا قبول، وقد يوجد لفظ من أحدهما. واختار المصنف وجماعة منهم المتولي والبغوي الانعقاد بها في كل ما يعده