رجل من تجار الفرنج يقال له المركيس (1)، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقا من البحر إلى البحر، فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بها برا وبحرا، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين حزنا وتأسفا، وقد دخل عليهم فصل البرد وقلت الأزواد، وكثرت الجراحات وكل الامراء من المحاصرات، فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا، وتفرقت العساكر إلى بلادها. وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها، فكاد ولم يفعل وليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي، ووقف دار الاسبتارية (2) بصفين على الفقهاء والفقراء، وجعل دار الأسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا دارة، وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين بن الشيخ أبى النجيب.
ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا، وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كان وضيعا عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة. فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع. وقال: الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضئ، ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب مع غناه عنه.
وفيها كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وبين ملك الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود، ومعهم أربعة عشر فيلا، فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، وقيل للملك أنج بنفسك، فما زاده ذلك إلا إقداما، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعا، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا