وليعلم أولا: أن تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية لا يخلو عن تسامح؛ لأن كل تقسيم لابد وأن يكون للاختلاف في ذات الشيء وحقيقته، وإلا يتمكن تقسيم الشيء إلى أقسام غير متناهية؛ لأن الإرادتين لم تختلفا هوية؛ فإن الإرادة التشريعية عبارة عن إرادة جعل القانون، والجعل فعل تكويني للمقنن، نظير سائر أفعاله الاختيارية؛ من الأكل والشرب وغيرهما، من دون تفاوت أصلا.
فلم تفترق ذات الإرادة التشريعية عن ذات الإرادة التكوينية، ولا يكون اختلاف في حقيقتي الإرادتين، كما يوهمه ظاهر التقسيم.
وإنما الاختلاف بينها في المتعلق؛ لأنه إذا كان متعلق الإرادة حكما شرعيا قانونيا، فيسمونها إرادة تشريعية، وإن كان غيره من الأمور التكوينية فيسمونها إرادة تكوينية.
فبعدما ظهر لك عدم الاختلاف في حقيقتي الإرادتين فالأولى أن يقال: إرادة التشريع وإرادة التكوين، لا الإرادة التشريعية والإرادة التكوينية، كما لا يخفى.
فإذا تبين لك ما ذكرنا فواضح: أن كل فعل اختياري - كالأكل والشرب وغيرهما - إنما يصدر عنا بعد تصوره والتصديق بفائدته والاشتياق نحوه أحيانا، ثم الإرادة المحركة نحوه.
وواضح: أن المتصور أولا قد يكون فيه من حيث هو هو مصلحة، وقد لا يكون فيه صلاح إلا إذا قيد بقيد وشرط خاص.
مثلا: قد يكون لإكرام العالم نفسه مصلحة، وقد لا يكون فيه صلاح إلا إذا قارن علمه بالعدالة مثلا، فكما أن إرادة إكرام العالم نفسه مسبوقة بتصورها - مثلا - فكذلك إرادة إكرام العالم مقيدا بالعدالة مسبوقة بتصورها.
وواضح: أنه لا يتوقف إرادة إكرام العالم أو مقيدا بالعدالة ولا سائر مبادئها إلى وجود العالم أو العالم العادل في الخارج، بل قد تتعلق بهما الإرادة، وإن لم تكن لهما في