وقد يمكن أن يكون تلك الإبل من صدقة تطوع، لأنه ليس في الحديث أنها الصدقة الواجبة فلما أمكن كل ذلك ونحن على يقين من أنه ليس في الصدقة جمل رباعي أصلا لم يحل ترك اليقين للظنون، وقد تكلمنا في معنى هذا الخبر في كتاب (الايصال) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم لا يمكن البتة أن يستسلف البكر لنفسه ثم يقضيه من إبل الصدقة، والصدقة حرام عليه بلا شك ولا خلاف، صح أنه عليه السلام قال:
الصدقة (لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) فنحن على يقين من أنه إنما استسلفه لغيره، لا يمكن غير ذلك، فصار الذي اخذ البكر من الغارمين، لان السلف في ذمته، وهو أخذه، فإذ هو من الغارمين فقد صار حظه في الصدقة، فقضى عنه منها، لا يجوز غير ذلك. وكذلك أيضا لا نشك أن الذي كان يستقرض منه البكر كان من بعض أصناف الصدقة، ولولا ذلك ما أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم من حق أهل الصدقات فضلا على حقه.
قال أبو محمد: وإنما في هذا الخبر دليل على المنع من تقديم الصدقة قبل وقتها لأنه لو كان ذلك جائزا لما استقرض عليه السلام على الصدقة وانتظر حتى يحين وقتها، بل كان يستعجل صدقة من بعض أصحابه، فلما لم يفعل ذلك عليه السلام صح أنه لا يجزى أداء صدقة قبل وقتها. وبالله تعالى نتأيد.
فبطل كل ما موهوا به، وصح أن كل ما احتجوا به ليس فيه إجازة إعطاء أكثر من الواجب في الزكاة ولا غير الصفة المحدودة فيها وأما القيمة فلا دليل لهم على جوازها أصلا، بل البرهان ثابت بتحريم أخذها، لأنها غير ما أمر الله تعالى به، وتعدى لحدود الله، وقد قال الله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقال تعالى:
(فمن بدله بعد ما سمعه فأنما إثمه على الذين يبدلونه).
فان قالوا: إن كان نظرا لأهل الصدقة فما يمنع منه؟.
قلنا: النظر كله لأهل الصدقة أن لا يعطوا ما حرمه الله تعالى عليهم، إذ يقول تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فصح أنه لا يحل من مال أحد إلا ما أباحه الله تعالى منه أو أوجبه فيه فقط، وما أباح تعالى قط أخذ قيمة عن زكاة افترضها بعينها وصفتها وما ندري في أي نظر معهود بيننا وجدوا أن تؤخذ الزكاة من صاحب خمس من الإبل لا تقوم به، وعند أبي حنيفة ممن لا يملك إلا وردة واحد أخرجتها قطعة أرض له: ولا تؤخذ من صاحب جواهر ورقيق ودور بقيمة مائة ألف! ولا من صاحب تسع وعشرين بقرة وتسع وثلاثين شاة وخمس أواقي غير درهم من الفضة!