ههنا. أما القسم الثاني: وهو أن رحمته إنما تظهر بالنسبة إلى من يستحق العقاب، فإما أن تكون رحمته لأنه تعالى ترك العذاب الزائد على العذاب المستحق، وهذا باطل لأن ترك ذلك واجب والواجب لا يسمى رحمة ولأنه يلزم أن يكون كل كافر وظالم رحيما علينا لأجل أنه ما ظلمنا، فبقي أنه إنما يكون رحيما لأنه ترك العقاب المستحق وذلك لا يتحقق في حق صاحب الصغيرة ولا في حق صاحب الكبيرة بعد التوبة، لأن ترك عقابهم واجب، فدل على أن رحمته إنما حصلت لأنه ترك عقاب صاحب الكبيرة قبل التوبة، فإن قيل: لم لا يجوز أن تكون رحمته لأجل أن الخلق والتكليف والرزق كلها تفضل، ولأنه تعالى يخفف عن عقاب صاحب الكبيرة؟ قلنا: أما الأول فإنه يفيد كونه رحيما في الدنيا فأين رحمته في الآخرة مع أن الأمة مجتمعة على أن رحمته في الآخرة أعظم من رحمته في الدنيا. وأما الثاني: فلأن عندكم التخفيف عن العقاب غير جائز هكذا قول المعتزلة الوعيدية، إذا ثبت حصول التخفيف بمقتضى هذه الآية ثبت جواز العفو لأن كل من قال بأحدهما قال بالآخر.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48)، فنقول: " لمن يشاء " لا يجوز أن يتناول صاحب الصغيرة ولا صاحب الكبيرة بعد التوبة، فوجب أن يكون المراد منه صاحب الكبيرة قبل التوبة، وإنما قلنا: لا يجوز حمله على الصغيرة ولا على الكبيرة بعد التوبة لوجوه. أحدها: أن قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) *، معناه أنه لا يغفره تفضلا لا أنه لا يغفره استحقاقا دل عليه العقل والسمع وإذا كان كذلك لزم أن يكون معنى قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أي ويتفضل بغفران ما دون ذلك الشرك حتى يكون النفي والإثبات متوجهين إلى شيء واحد، ألا ترى أنه لو قال: فلان لا يتفضل بمائة دينار ويعطي ما دونها لمن استحق لم يكن كلاما منتظما، ولما كان غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة مستحقا امتنع كونهما مرادين بالآية.
وثانيها: أنه لو كان قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * أنه يغفر المستحقين كالتائبين وأصحاب الصغائر لم يبق لتمييز الشرك مما دون الشرك معنى لأنه تعالى كما يغفر ما دون الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق فكذلك يغفر الشرك عند الاستحقاق ولا يغفره عند عدم الاستحقاق، فلا يبقى للفصل والتمييز فائدة، وثالثها: أن غفران التائبين وأصحاب الصغائر واجب والواجب غير معلق على المشيئة، لأن المعلق على المشيئة هو الذي إن شاء فاعله فعله يفعله وإن شاء تركه يتركه فالواجب هو الذي لا بد من فعله شاء أو أبى، والمغفرة المذكورة في الآية معلقة على المشيئة فلا يجوز أن تكون للمغفرة المذكورة في الآية مغفرة التائبين وأصحاب الصغائر، واعلم أن هذه الوجوه بأسرها مبينة على قول المعتزلة من أنه يجب غفران صاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة، وأما نحن فلا نقول ذلك. ورابعها: أن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * يفيد القطع بأنه يغفر كل ما سوى