وما ذكرتموه يفيد الوعيد للكل، ولأن ترجيح آيات العفو أولى لكثرة ما جاء في القرآن والأخبار من الترغيب في العفو.
الحجة الخامسة: أن نتمسك بعمومات الوعد وهي كثيرة في القرآن، ثم نقول: لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح أو من التوفيق، والترجيح معناه من وجوه. أحدها: أن عمومات الوعد أكثر والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع، وقد دللنا على صحته في أصول الفقه، وثانيها: أن قوله تعالى: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * (هود: 114) يدل على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة على ما ثبت في أصول الفقه، فوجب بحكم هذا الإيماء أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة ترك العمل به في حق الحسنات الصادرة من الكفار، فإنها لا تذهب سيئاتهم فيبقى معمولا به في الباقي. وثالثها: قوله تعالى: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (الأنعام: 165)، ثم إنه تعالى زاد على العشرة فقال: * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * ثم زاد عليه فقال: * (والله يضاعف لمن يشاء) * (البقرة: 261) وأما في جانب السيئة فقال: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) *، وهذا في غاية الدلالة على أن جانب الحسنة راجع عند الله تعالى على جانب السيئة. ورابعها: أنه تعالى قال في آية الوعد في سورة النساء: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا) * فقوله: * (وعد الله حقا) * (النساء: 122) إنما ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقا.
أما قوله تعالى: * (ما يبدل القول لدي) * (ق: 29) الآية، يتناول الوعد والوعيد. وخامسها: قوله تعالى: * (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما) * (النساء: 110 - 111) والاستغفار طلب المغفرة وهو غير التوبة، فصرح ههنا بأنه سواء تاب أو لم يتب فإذا استغفر غفر الله له، ولم يقل ومن يكسب إثما فإنه يجد الله معذبا معاقبا، بل قال: * (فإنما يكسبه على نفسه) * فدل هذا على أن جانب الحسنة راجح ونظيره قوله تعالى: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) * (الإسراء: 7) ولم يقل: وإن أسأتم أسأتم لها فكأنها تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين وستر عليه إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح. وسادسها: أنا قد دللنا على أن قوله تعالى: * (ويغفر ما دون لمن يشاء) * (النساء: 48) لا يتناول إلا العفو عن صاحب الكبيرة ثم إنه تعالى أعاد هذه الآية في السورة الواحدة مرتين والإعادة لا تحسن إلا للتأكيد، ولم يذكر شيئا من آيات الوعيد على وجه الإعادة بلفظ واحد، لا في سورة واحدة ولا في سورتين، فدل على أن عناية الله بجانب الوعد على الحسنات والعفو عن السيئات أتم. وسابعها: أن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضت فلا بد من صرف التأويل إلى أحد الجانبين وصرف التأويل إلى الوعيد أحسن من صرفه إلى الوعد لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف وإهمال الوعد مستقبح في العرف، فكان صرف التأويل إلى الوعيد أولى من صرفه إلى الوعد. وثامنها: