من غير فائدة، فعلمنا أن العفو عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه وذلك هو مذهبنا. الحجة الثانية: الآيات الدالة على كونه تعالى غافرا وغفورا وغفارا، قال تعالى: * (غافر الذنب وقابل التوب) * (غافر: 3) وقال: * (وربك الغفور ذو الرحمة) * (الكهف: 58) وقال: * (وإني لغفار لمن تاب) * (طه: 82) وقال: * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * (البقرة: 285). والمغفرة ليست عبارة عن إسقاط العقاب عمن لا يحسن عقابه فوجب أن يكون ذلك عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه، وإنما قلنا: إن الوجه الأول باطل لأنه تعالى يذكر صفة المغفرة في معرض الامتنان على العباد ولو حملناه على الأول لم يبق هذا المعنى لأن ترك القبيح لا يكون منة على العبد بل كأنه أحسن إلى نفسه فإنه لو فعله لاستحق الذم واللوم والخروج عن حد الإلهية فهو بترك القبائح لا يستحق الثناء من العبد، ولما بطل ذلك تعين حمله على الوجه الثاني وهو المطلوب. فإن قيل: لم يجوز حمل العفو والمغفرة على تأخير العقاب من الدنيا إلى الآخرة والدليل على أن العفو مستعمل في تأخير العذاب عن الدنيا قوله تعالى في قصة اليهود: * (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) * (البقرة: 52) والمراد ليس إسقاط العقاب، بل تأخيره إلى الآخرة وكذلك قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) * أي ما يعجل الله تعالى من مصائب عقابه إما على جهة المحنة أو على جهة العقوبة المعجلة فبذنوبكم ولا يعجل المحنة والعقاب على كثير منها، وكذا قوله تعالى: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * إلى قوله: * (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) * أي لو شاء إهلاكهن لأهلكهن ولا يهلك على كثير من الذنوب. والجواب: العفو أصله من عفا أثره أي أزاله، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المسمى من العفو الإزالة لهذا قال تعالى: * (فمن عفي له من أخيه شيء) * (البقرة: 178) وليس المراد منه التأخير، بل الإزالة وكذا قوله: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، ومما يدل على أن العفو لا يتناول التأخير أن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال: إنه عفا عنه ولو أسقطه يقال: إنه عفا عنه فثبت أن العفو لا يمكن تفسيره بالتأخير. الحجة الثالثة: الآيات الدالة على كونه تعالى رحمانا رحيما والاستدلال بها أن رحمته سبحانه إما أن تظهر بالنسبة إلى المطيعين الذين يستحقون الثواب أو إلى العصاة الذين يستحقون العقاب، والأول: باطل لأن رحمته في حقهم إما أن تحصل لأنه تعالى أعطاهم الثواب الذي هو حقهم أو لأنه تفضل عليهم بما هو أزيد من حقهم. والأول: باطل لأن أداء الواجب لا يسمى رحمة، ألا ترى أن من كان له على إنسان مائة دينار فأخذها منه قهرا وتكليفا لا يقال في المعطي إنه أعطى الآخذ ذلك القدر رحمة، والثاني: باطل لأن المكلف صار بما أخذ من الثواب الذي هو حقه كالمستغني عن ذلك التفضل فتلك الزيادة تسمى زيادة في الإنعام ولا تسمى البتة رحمة، ألا ترى أن السلطان المعظم إذا كان في خدمته أمير له ثروة عظيمة ومملكة كاملة، ثم إن السلطان ضم إلى ماله من الملك مملكة أخرى، فإنه لا يقال: إن السلطان رحمه بل يقال: زاد في الإنعام عليه فكذا
(١٥٦)