وجوه: الأول: كما وجدت آيات دالة على أنهم يلعنون ويعذبون في الدنيا بسبب معاصيهم كذلك أيضا وجدت آيات دالة على أنهم يعظمون ويكرمون في الدنيا بسبب إيمانهم. قال الله تعالى: * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة) * (الأنعام: 54)، فليس ترجيح آيات الوعيد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يذمون ويعذبون في الدنيا بأولى من ترجيح آيات الوعد في الآخرة بالآيات الدالة على أنهم يعظمون بسبب إيمانهم في الدنيا. الثاني: فكما أن آيات الوعد معارضة لآيات الوعيد في الآخرة فهي معارضة لآيات الوعيد والنكال في الدنيا، فلم كان ترجيح آيات وعيد الدنيا على آيات وعيد الآخرة أولى من العكس. الثالث: أنا أجمعنا على أن السارق وإن تاب إلا أنه تقطع يده لا نكالا ولكن امتحانا، فثبت أن قوله: * (جزاء بما كسبا نكالا) * (المائدة: 38) مشروط بعدم التوبة، فلم لا يجوز أيضا أن يكون مشروطا بعدم العفو. والرابع: أن الجزاء ما يجزي ويكفي وإذا كان كافيا وجب أن لا يجوز العقاب في الآخرة وإلا قدح ذلك في كونه مجزيا وكافيا، فثبت أن هذا ينافي العذاب في الآخرة، وإذا ثبت فساد قولهم في ترجيح جانب الوعيد فنقول: الآيتان الدالتان على الوعد والوعيد موجودتان فلا بد من التوفيق بينهما، فأما أن يقال: العبد يصل إليه الثواب ثم ينقل إلى دار العقاب وهو قول باطل بإجماع الأمة، أو يقال: العبد يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب. أما الترجيح الثاني فهو ضعيف لأن قوله: * (ويغفر ما دون ذلك) * لا يتناول الكفر وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * (النساء: 14) (الأحزاب: 36) يتناول الكل فكان قولنا هو الخاص والله أعلم.
الحجة السادسة: أنا قد دللنا على أن تأثير شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في إسقاط العقاب وذلك يدل على مذهبنا في هذه المسألة.
الحجة السابعة: قوله تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) وهو نص في المسألة. فإن قيل: هذه الآية إن دلت فإنما تدل على القطع بالمغفرة لكل العصاة، وأنتم لا تقولون بهذا المذهب، فما تدل الآية عليه لا تقولون به وما تقولون به لا تدل الآية عليه؟ سلمنا ذلك، لكن المراد بها أنه تعالى يغفر جميع الذنوب مع التوبة وحمل الآية على هذا المحمل أولى لوجهين: أحدهما: أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب من غير تخصيص، الثاني: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى: * (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب) * (الزمر: 54) والإنابة هي التوبة. فدل على أن التوبة شرط فيه، والجواب عن الأول. أن قوله: * (يغفر الذنوب جميعا) * وعد منه بأنه تعالى سيسقطها في المستقبل، ونحن نقطع بأنه سيفعل في المستقبل ذلك، فإنا نقطع بأنه تعالى سيخرج المؤمنين من النار لا محالة، فيكون هذا قطعا بالغفران لا محالة، وبهذا ثبت أنه لا حاجة في إجراء الآية على ظاهرها على قيد التوبة، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق. ولنرجع إلى تفسير الآية فنقول: إن المعتزلة فسروا كون الخطيئة محبطة بكونها كبيرة محبطة لثواب فاعلها، والاعتراض عليه