لا يخزى لأن صاحب الكبيرة مؤمن والمؤمن لا يخزى، وإنما قلنا: إنه مؤمن لما سبق بيانه في تفسير قوله: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) من أن صاحب الكبيرة مؤمن، وإنما قلنا: إن المؤمن لا يخزى لوجوه. أحدها: قوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (التحريم: 8). وثانيها: قوله: * (إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين) * (النحل: 27). وثالثها: قوله تعالى: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل عمران: 191) إلى أن حكى عنهم أنهم قالوا: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * (آل عمران: 194)، ثم إنه تعالى قال: * (فاستجاب لهم ربهم) * (آل عمران: 195) ومعلوم أن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض يدخل فيه العاصي والزاني وشارب الخمر، فلما حكى الله عنهم أنهم قالوا: * (ولا تخزنا يوم القيامة) * ثم بين أنه تعالى استجاب لهم في ذلك ثبت أنه تعالى لا يخزيهم، فثبت بما ذكرنا أنه تعالى لا يخزي عصاة أهل القبلة، وإنما قلنا: إن كل من أدخل النار فقد أخزي لقوله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * (آل عمران: 192)، فثبت بمجموع هاتين المقدمتين أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار. العاشر: العمومات الكثيرة الواردة في الوعد نحو قوله: * (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * (البقرة: 4 - 5)، فحكم بالفلاح على كل من آمن، وقال: * (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (البقرة: 62). فقوله: * (وعمل صالحا) * نكرة في الإثبات فيكفي فيه الإثبات بعمل واحد وقال: * (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة) * (النساء: 124) وإنها كثيرة جدا، ولنا فيه رسالة مفردة من أرادها فليطالع تلك الرسالة. والجواب عن هذه الوجوه: أنها معارضة بعمومات الوعيد، والكلام في تفسير كل واحد من هذه الآيات يجيء في موضعه إن شاء الله تعالى، أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض وتوقفوا في البعض فقد احتجوا من القرآن بآيات. الحجة الأولى: الآيات الدالة على كون الله تعالى عفوا غفورا كقوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) * (الشورى: 25) وقوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * (الشورى: 30) وقوله: * (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) * (الشورى: 32) إلى قوله: * (أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير) * (الشورى: 34) وأيضا أجمعت الأمة على أن الله يعفو عن عباده وأجمعوا على أن من جملة أسمائه العفو فنقول: العفو إما أن يكون عبارة عن إسقاط العقاب عمن يحسن عقابه أو عمن لا يحسن عقابه، وهذا القسم الثاني باطل، لأن عقاب من لا يحسن عقابه قبيح، ومن ترك مثل هذا الفعل لا يقال: إنه عفا، ألا ترى أن الإنسان إذا لم يظلم أحدا لا يقال: أنه عفا عنه، إنما يقال له: عفا إذا كان له أن يعذبه فتركه ولهذا قال: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) ولأنه تعالى قال: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات) * (الشورى: 25)، فلو كان العفو عبارة عن إسقاط العقاب عن التائب لكان ذلك تكريرا
(١٥٥)