المعين فأما أن يراد بها الإشارة إلى النوع، فذاك على خلاف الأصل، وأيضا فلأنه تعالى لا تجوز الإشارة عليه فوجب أن يكون أمر بعض الملائكة بالإشارة إلى ذلك الشخص، فكان ما عداه خارجا عن النهي لا محالة، إذا ثبت هذا فنقول: المجتهد مكلف بحمل اللفظ على حقيقته، فآدم عليه السلام لما حمل لفظ * (هذا) * على المعين كان قد فعل الواجب ولا يجوز له حمله على النوع، واعلم أن هذا الكلام متأيد بأمرين آخرين. أحدهما: أن قوله: * (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * (البقرة: 35) أفاد الإذن في تناول كل ما في الجنة إلا ما خصه الدليل. والثاني: أن العقل يقتضي حل الانتفاع بجميع المنافع إلا ما خصه الدليل، والدليل المخصص لم يدل إلا على ذلك المعين، فثبت أن آدم عليه السلام كان مأذونا له في الانتفاع بسائر الأشجار، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحق بسبب هذا عتابا وأن يحكم عليه بكونه مخطئا فثبت أن حمل القصة على هذا الوجه، يوجب أن يحكم عليه بأنه كان مصيبا لا مخطئا، وإذا كان كذلك ثبت فساد هذا التأويل. الوجه الثاني: في الاعتراض على هذا التأويل. هب أن لفظ * (هذا) * متردد بين الشخص والنوع، ولكن هل قرن الله تعالى بهذا اللفظ ما يدل على أن المراد منه النوع دون الشخص أو ما فعل ذلك؟ فإن كان الأول فأما أن يقال إن آدم عليه السلام قصر في معرفة ذلك البيان، فحينئذ يكون قد أتى بالذنب، وإن لم يقصر في معرفته بل عرفه فقد عرف حينئذ أن المراد هو النوع، فإقدامه على التناول من شجرة من ذلك النوع يكون إقداما على الذنب قصدا. الوجه الثالث: أن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظن، وذلك إنما يجوز في حق من لا يتمكن من تحصيل العلم، أما الأنبياء فإنهم قادرون على تحصيل اليقين، فوجب أن لا يجوز لهم الاجتهاد لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلا وشرعا، وإذا ثبت ذلك ثبت أن الإقدام على الاجتهاد معصية. الوجه الرابع: هذه المسألة إما أن تكون من المسائل القطعية أو الظنية، فإن كانت من القطعيات كان الخطأ فيها كبيرا وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقق الخطأ فيها أصلا، وإن قلنا المصيب فيها واحد والمخطئ فيها معذور بالاتفاق فكيف صار هذا القدر من الخطأ سببا لأن نزع عن آدم عليه السلام لباسه وأخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض؟ والجواب عن الأول: أن لفظ هذا وإن كان في الأصل للإشارة إلى الشخص لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه، وأنه سبحانه وتعالى كان قد قرن به ما دل على أن المراد هو النوع. والجواب عن الثاني: هو أن آدم عليه السلام لعله قصر في معرفة ذلك الدليل لأنه ظن أنه لا يلزمه ذلك في الحال، أو يقال: إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله تعالى عن عين الشجرة، فلما طالت المدة غفل عنه لأن في الخبر أن آدم عليه السلام بقي في الجنة الدهر الطويل ثم أخرج. والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة ههنا إلى إثبات أن الأنبياء عليهم السلام تمسكوا بالاجتهاد، فأنا بينا أنه عليه السلام قصر في معرفة تلك الدلالة أو أنه كان قد عرفها
(١٤)