التحفظ من أسباب النسيان، وهذا الضرب من السهو موضوع عن المسلمين وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خطرهم ومثلوه بقوله تعالى: * (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32)، ثم قال: * (من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * (الأحزاب: 30). وقال عليه الصلاة والسلام: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل ". وقال أيضا: " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم "، فإن قيل كيف يجوز أن يؤثر عظم حالهم وعلو منزلتهم في حصول شرط في تكليفهم دون تكليف غيرهم؟ قلنا أما سمعت: " حسنات الأبرار سيئات المقربين "، ولقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم من التشديدات في التكليف ما لم يكن على غيره. فهذا في تقرير أنه صدر ذلك عن آدم عليه السلام على جهة السهو والنسيان. ورأيت في بعض التفاسير أن حواء سقته الخمر حتى سكر ثم في أثناء السكر فعل ذلك. قالوا: وهذا ليس ببعيد لأنه عليه السلام كان مأذونا له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فإذا حملنا الشجرة على البر، كان مأذونا في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجنة لا يسكر، لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: * (لا فيها غول) * (الصافات: 47). أما القول الثاني: وهو أنه عليه السلام فعله عامدا فههنا أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم، وقد تقدم الكلام في هذا القول وعلته. الثاني: أنه كان ذلك عمدا من آدم عليه السلام وكان ذلك كبيرة مع أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت نبيا، وقد عرفت فساد هذا القول. الثالث: أنه عليه السلام فعله عمدا، لكن كان معه من الوجل والفزع والإشفاق ما صير ذلك في حكم الصغيرة، وهذا القول أيضا باطل بالدلائل المتقدمة لأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدا وإن فعله مع الخوف إلا أنه يكون مع ذلك عاصيا مستحقا للعن والذم والخلود في النار، ولا يصح وصف الأنبياء عليهم السلام بذلك، ولأنه تعالى وصفه بالنسيان في قوله: * (فنسي ولم نجد له عزما) * (طه: 115)، وذلك ينافي العمدية. القول الرابع: وهو اختيار أكثر المعتزلة: أنه عليه السلام أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد الخطأ أنه لما قيل له: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * فلفظ * (هذه) * قد يشار به إلى الشخص، وقد يشار به إلى النوع، وروي أنه عليه السلام أخذ حريرا وذهبا بيده وقال: " هذان حل لإناث أمتي حرام على ذكورهم "، وأراد به نوعهما، وروي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به "، وأراد نوعه، فلما سمع آدم عليه السلام قوله تعالى: * (ولا تقربا هذه الشجرة) * (البقرة: 35) (الأعراف: 19) ظن أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع، إلا أنه كان مخطئا في ذلك الاجتهاد لأن مراد الله تعالى من كلمة * (هذه) * كان النوع لا الشخص والاجتهاد في الفروع، إذا كان خطأ لا يوجب استحقاق العقاب واللعن لاحتمال كونه صغيرة مغفورة كما في شرعنا، فإن قيل: الكلام على هذا القول من وجوه: أحدها: أن كلمة * (هذا) * في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء الحاضر. والشيء الحاضر لا يكون إلا شيئا معينا، فكلمة هذا في أصل اللغة للإشارة إلى الشيء
(١٣)