وتنقيح المقام: إن ظاهر الروايات المفسرة لمسيرة يوم بسير الأثقال بين مكة والمدينة (1)، وإن كان إشارة إلى مسير معتدل في يوم واحد تام، إلا أنه ليس مقتضاه تعين القصر على من سار سيرا معتدلا في يوم واحد تام، لوضوح اختلاف سير المسافرين بالسرعة والبطئ والاعتدال، وبكونه في يوم أو أيام أو في ساعات من أيام. فلا محالة يكون السير المشار إليه مقياسا لأنحاء السير المختلف في الكيفية والكمية الزمانية، ومقتضاه تقدير السير بنحو الاعتدال، وإن كان الواقع سريعا أو بطيئا، وتقدير اليوم الواحد التام وإن كان الواقع متكمما بساعات من أيام.
إذا عرفت ذلك نقول: إن مقتضى قوله (عليه السلام): " إذا ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه " (2) وإن كان فعلية شاغلية السير الملفق ليوم واحد تام عند فعلية السير الملفق، إلا أن مقام التحديد وجعله ميزانا ومقياسا، يقتضي إرادة شاغلية السير الملفق لمقدار يوم واحد لا لنفسه، ولذا لا شبهة في أنه إذا ذهب بريدا ورجع بريدا في نصف يوم لسرعة سيره كان موجبا للقصر مع أنه غير شاغل ليوم واحد فعلا بل ليوم واحد تقديرا، وهو المراد بمقدار يوم لا نفسه. مضافا إلى أن ظاهر هذا التعليل كظاهر التعليل الآخر من حيث إرادة اندراج الملفق تحت عنوان مسيرة يوم تارة، وعنوان ثمانية فراسخ أخرى، لا أنه موضوع آخر موجب للقصر حتى يقال لا يضر انفكاكه عن السير الامتدادي في أيام.
ودعوى أن نفس الشغل المساوق للمشقة يقتضي تعين الرجوع ليومه فإنه الذي يظهر معه مشقة السير.
مدفوعة بأن الشغل لا بمفهومه يقتضي المشقة ولا بلازمه، لأن الشغل ينسب إلى الخير والشر، والأمر الهين والشاق، ولا حاجة إلى الجواب بأنه حكمة لا يجب إطرادها، بل شغل اليوم بالسير يزيد على التلبس بالسير بخصوصية كون السير مانعا عن التلبس بأضداده. وكما أن شغل يوم واحد تام بالسير يلازم عدم إمكان