الفضيل بن عياض رحمه الله أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من خراسان. فقال: اتقوا الله وكونوا من حيث شئتم، واعلموا أن العبد لو أحسن كل الإحسان وكان له دجاجة فأساء إليها لم يكن من المحسنين، وأقول حاصل الكلام: أن قوله: * (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) * إشارة إلى التعظيم لأمر الله وقوله: * (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله.
القيد الرابع: قوله: * (ويخشون ربهم) * والمعنى: أنه وإن أتى بكل ما قدر عليه في تعظيم أمر الله، وفي الشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد وأن تكون الخشية من الله والخوف منه مستوليا على قلبه وهذه الخشية نوعان: أحدهما: أن يكون خائفا من أن يقع زيادة أو نقصان أو خلل في عباداته وطاعاته، بحيث يوجب فساد العبادة أو يوجب نقصان ثوابها. والثاني: وهو خوف الجلال وذلك لأن العبد إذا حضر عند السلطان المهيب القاهر فإنه وإن كان في غير طاعته إلا أنه لا يزول عن قلبه مهابة الجلالة والرفعة والعظمة.
القيد الخامس: قوله: * (ويخافون سوء الحساب) * اعلم أن القيد الرابع إشارة إلى الخشية من الله وهذا القيد الخامس إشارة إلى الخوف والخشية وسوء الحساب، وهذا يدل على أن المراد من الخشية من الله ما ذكرناه من خوف الجلال والمهابة والعظمة وإلا لزم التكرار.
القيد السادس: قوله تعالى: * (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم) * فيدخل فيه الصبر على فعل العبادات والصبر على ثقل الأمراض والمضار، والغموم والأحزان، والصبر على ترك المشتهيات وبالجملة الصبر على ترك المعاصي وعلى أداء الطاعات. ثم إن الإنسان قد يقدم على الصبر لوجوه: أحدها: أن يصبر ليقال ما أكمل صبره وأشد قوته على تحمل النوازل. وثانيها: أن يصبر لئلا يعاب بسبب الجزع. وثالثها: أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء. ورابعها: أن يصبر لعلمه بأن لا فائدة في الجزع فالإنسان إذا أتى بالصبر لأحد هذه الوجوه لم يكن ذلك داخلا في كمال النفس وسعادة القلب، أما إذا صبر على البلاء لعلمه بأن ذلك البلاء قسمة حكم بها القسام العلام المنزه عن العيب والباطل والسفه، بل لا بد أن تكون تلك القسمة مشتملة على حكمة بالغة ومصلحة راجحة ورضي بذلك، لأنه تصرف المالك في ملكه ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه أو يصبر لأنه صار مستغرقا في مشاهدة المبلى فكان استغراقه في تجلي نور المبلى أذهله على التألم بالبلاء وهذا أعلى مقامات الصديقين، فهذه الوجوه الثلاثة هي التي يصدق عليها أنه صبر ابتغاء وجه ربه ومعناه أنه صبر لمجرد ثوابه، وطلب رضا الله تعالى.