قوله تعالى * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن فى الارض جميعا فإن الله لغنى حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فى أفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب) * اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران، فلا جرم قال تعالى: * (وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) * والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره الله في قوله: * (إن الله لغني) * وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن كونه غنيا يوجب كونه واجب الوجود في ذاته، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته، كان أيضا واجب الوجود بحسب جميع كمالاته، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل، فحينئذ لا يكون غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته، وإذا كان الأمر كذلك كان حميدا لذاته، لأنه لا معنى للحميد إلا الذي استحق الحمد، فثبت بهذا التقرير الذي ذكرناه أن كونه غنيا حميدا يقتضي أن لا يزداد بشكر الشاكرين، ولا ينتقص بكفران الكافرين، فلهذا المعنى قال: * (إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) * وهذه المعاني من لطائف الأسرار.
(٨٧)