الكلام من حيث المعنى، كأنه تعالى قال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، ليكون بيانه لهم تلك الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال ومع أن الأمر كذلك فإنه تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، والغرض منه التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان وحصلت الهداية، وإنما كان الأمر كذلك لأجل أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى. أما قوله ثانيا: لو كان الضلال حاصلا بخلق الله تعالى لكان الكافر أن يقول له: ما الفائدة في بيانك ودعوتك؟ فنقول: يعارضه أن الخصم يسلم أن هذه الآيات أخبار عن كونه ضالا فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافرا فإن آمنت صار إلهك كاذبا فهل أقدر على جعل إلهك كاذبا، وهل أقدر على جعل علمه جهلا. وإذا لم أقدر عليه فكيف يأمرني بهذا الإيمان، فثبت أن هذا السؤال الذي أورده الخصم علينا هو أيضا وارد عليه. وأما قوله ثالثا: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجبا، لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
قلنا: ويلزمك أيضا على مذهبك أنه يجب على العبد السعي في تكذيب الله وفي تجهيله، وهذا أشد استحالة مما ألزمته علينا، لأنه تعالى لما أخبر عن كفره وعلم كفره فإزالة الكفر عنه يستلزم قلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا. وأما قوله رابعا: إن مقدمة الآية وهي قوله تعالى: * (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * (إبراهيم: 1) يدل على صحة الاعتزال فنقول: قد ذكرنا أن قوله: * (بإذن ربهم) * يدل على صحة مذهب أهل السنة. وأما قوله خامسا: أنه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيما وذلك ينافي كونه تعالى خالقا للكفر مريدا له. فنقول: وقد وصف نفسه بكونه عزيزا والعزيز هو الغالب القاهر فلو أراد الإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل أو أراد عمل الكفر منهم، وقد حصل لما بقي عزيزا غالبا. فثبت أن الوجوه التي ذكروها ضعيفة، وأما التأويلات الثلاثة التي ذكروها فقد مر إبطالها في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة.
قوله تعالى * (ولقد أرسلنا موسى باياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم