من رقدة الجهالة، ونوم الغفلة، وبه يحصل الانتقال من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية، فظهر أن إطلاق لفظ الروح على الوحي في غاية المناسبة والمشاكلة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى أطلق لفظ الروح على جبريل عليه السلام في قوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وعلى عيسى عليه السلام في قوله: * (روح الله) * (يوسف: 87) وإنما حسن هذا الإطلاق، لأنه حصل بسبب وجودهما حياة القلب وهي الهداية والمعارف، فلما حسن إطلاق اسم الروح عليهما لهذا المعنى، فلأن يحسن إطلاق لفظ الروح على الوحي والتنزيل كان ذلك أولى.
والقول الثاني؛ في هذه الآية وهو قول أبي عبيدة إن الروح ههنا جبريل عليه السلام، والباء في قوله: * (بالروح) * بمعنى مع كقولهم خرج فلان بثيابه، أي مع ثيابه وركب الأمير بسلاحه أي مع سلاحه، فيكون المعنى: ينزل الملائكة مع الروح وهو جبريل، والأول أقرب، وتقرير هذا الوجه: أنه سبحانه وتعالى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم جبريل وحده، بل في أكثر الأحوال كان ينزل مع جبريل أفواجا من الملائكة، ألا ترى أن في يوم بدر وفي كثير من الغزوات كان ينزل مع جبريل عليه السلام أقوام من الملائكة، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تارة ملك الجبال. وتارة ملك البحار. وتارة رضوان. وتارة غيرهم. وقوله: * (من أمره) * يعني أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * (مريم: 64) وقوله: * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون) * (الأنبياء: 27) وقوله: * (وهم من خشيته مشفقون) * (الأنبياء: 28) وقوله: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 5) وقوله: * (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) * (التحريم: 6) فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر الله تعالى وإذنه، وقوله: * (على من يشاء من عباده) * يريد الأنبياء الذين خصهم الله تعالى برسالته، وقوله: * (أن أنذروا) * قال الزجاج: * (أن) * بدل من الروح والمعنى: ينزل الملائكة بأن أنذروا، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.
المسألة الثانية: في الآية فوائد: الفائدة الأولى: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله) * (البقرة: 285) فبدأ بذكر الله سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من الله ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر الله تعالى، ثم بذكر الملائكة، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.