لكل من اتقى عن شيء واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 40) وعقيب قول الله تعالى: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر، فثبت أن قوله: * (إن المتقين في جنات وعيون) * يتناول جميع القائلين بلا إله إلا الله محمد رسول الله قولا واعتقادا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين، وكلام ظاهر.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (في جنات وعيون) * أما الجنات فأربعة لقوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46) ثم قال: * (ومن دونهما جنتان) * (الرحمن: 46) فيكون المجموع أربعة وقوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * يؤكد ما قلناه، لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه عن الخوف من الله تعالى وقوله: * (ولمن خاف) * يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر الله تعالى في قوله: * (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) * (محمد: 15) ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار.
فإن قيل: أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل: لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله: * (ادخلوها بسلام آمنين) * يحتمل أن القائل لقوله: * (ادخلوها) * هو الله تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم: * (ادخلوها) *.
والجواب عنه من وجهين: الأول: لعل المراد به قيل لهم قبل دخولهم فيها: * (ادخلوها بسلام) *. الثاني: لعل المراد لما ملكوا جنات كثيرة فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها وقوله: * (ادخلوها بسلام آمنين) * المراد ادخلوا الجنة مع السلامة من كل الآفات في الحال ومع القطع ببقاء هذه السلامة، والأمن من زوالها.
ثم قال تعالى: * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * والغل الحقد الكامن في القلب وهو مأخوذ