ولو كان تمام المقصود من المجيء هو ذكر تلك البشارة لكانوا في أول ما دخلوا عليه ذكروا تلك البشارة، فلما لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذا الطريق أنه ما كان مجيئهم لمجرد هذه البشارة بل كان لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض فقال: * (فما خطبكم أيها المرسلون) *.
ثم حكى تعالى عن الملائكة أنهم قالوا: * (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) * وإنما اقتصروا على هذا القدر لعلم إبراهيم عليه السلام بأن الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين كان ذلك لإهلاكهم واستئصالهم وأيضا فقولهم: * (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين) * يدل على أن المراد بذلك الإرسال إهلاك القوم.
أما قوله تعالى: * (إلا آل لوط) * فالمراد من آل لوط أتباعه الذين كانوا على دينه.
فإن قيل: قوله: * (إلا آل لوط) * هل هو استثناء منقطع أو متصل؟
قلنا: قال صاحب " الكشاف ": إن كان هذا الاستثناء استثناء من (قوم) كان منقطعا، لأن القوم موصوفون بكونهم مجرمين وآل لوط ما كانوا مجرمين، فاختلف الجنسان، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعا. وإن كان استثناء من الضمير في (مجرمين) كان متصلا كأنه قيل: إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم كما قال: * (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * (الذاريات: 36) ثم قال صاحب " الكشاف ": ويختلف المعنى بحسب اختلاف هذين الوجهين، وذلك لأن آل لوط يخرجون في المنقطع من حكم الإرسال، لأن على هذا التقدير الملائكة أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة وما أرسلوا إلى آل لوط أصلا، وأما في المتصل فالملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا هؤلاء، وأما قوله: * (إنا لمنجوهم أجمعين) * فاعلم أنه قرأ حمزة والكسائي * (منجوهم) * خفيفة، والباقون مشددة وهما لغتان.
أما قوله تعالى: * (إلا امرأته) * قال صاحب " الكشاف ": هذا استثناء من الضمير المجرور في قوله: * (لمنجوهم) * وليس ذلك من باب الاستثناء من الاستثناء، لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه، كما لو قيل: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأته، وكما لو قال: المطلق لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثنتين إلا واحدة، وكما إذا قال: المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما، فأما في هذه الآية فقد اختلف الحكمان، لأن قوله: * (إلا آل لوط) * متعلق بقوله: * (أرسلنا) * أو بقوله * (مجرمين) * وقوله: * (إلا امرأته) * قد تعلق بقوله: * (منجوهم) * فكيف يكون هذا استثناء من استثناء.
وأما قوله: * (قدرنا إنها لمن الغابرين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره. يقال: قدر هذا الشيء بهذا أي اجعله على مقداره، وقدر الله تعالى الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية، ثم يفسر التقدير بالقضاء، فقال: قضى الله عليه كذا، وقدره عليه أي جعله على مقدار ما يكفي