الثاني: أن المقام مصدر كالقيامة، يقال: قام قياما ومقاما، قال الفراء: ذلك لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي إياه كقوله: * (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * (الرعد: 33). الثالث: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي إقامتي على العدل والصواب فإنه تعالى لا يقضي إلا بالحق ولا يحكم إلا بالعدل وهو تعالى مقيم على العدل لا يميل عنه ولا ينحرف البتة. الرابع: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي مقام العائذ عندي وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، الخامس: * (ذلك لمن خاف مقامي) * أي لم خافني، وذكر المقام ههنا مثل ما يقال: سلام الله على المجلس الفلاني العالي والمراد: سلام الله على فلان فكذا ههنا.
ثم قال تعالى: * (وخاف وعيد) * قال الواحدي: الوعيد اسم من أوعد إيعادا وهو التهديد. قال ابن عباس: خاف ما أوعدت من العذاب.
واعلم أنه تعالى ذكر أولا قوله: * (ذلك لمن خاف مقامي) * ثم عطف عليه قوله: * (وخاف وعيد) * فهذا يقتضي أن يكون الخوف من الله تعالى مغايرا للخوف من وعيد الله، ونظيره: أن حب الله تعالى مغاير لحب ثواب الله، وهذا مقام شريف عال في أسرار الحكمة والتصديق.
ثم قال: * (واستفتحوا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: للاستفتاح ههنا معنيان: أحدهما: طلب الفتح بالنصرة، فقوله: * (واستفتحوا) * أي واستنصروا الله على أعدائهم، فهو كقوله: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * (الأنفال: 19). والثاني: الفتح الحكم والقضاء، فقول ربنا: * (واستفتحوا) * أي واستحكموا وسألوه القضاء بينهم، وهو مأخوذ من الفتاحة وهي الحكومة كقوله: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * (الأعراف: 19).
إذا عرفت هذا فنقول: كلا القولين ذكره المفسرون. أما على القول الأول فالمستفتحون هم الرسل، وذلك لأنهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب لما أيسوا من إيمانهم: * (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) * (نوح: 26) وقال موسى: * (ربنا اطمس) * (يونس: 88) الآية. وقال لوط: * (رب انصرني على القوم المفسدين) * (العنكبوت: 30) وأما على القول الثالث: وهو طلب الحكمة والقضاء فالأولى أن يكون المستفتحون هم الأمم وذلك أنهم قالوا: اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا، ومنه قول كفار قريش: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * (الأنفال: 32). وكقول آخرين * (أئتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) * (العنكبوت: 29).
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف ": قوله: * (واستفتحوا) * معطوف على قوله: * (فأوحى إليهم) * وقرئ واستفتحوا بلفظ الأمر وعطفه على قوله: * (لنهلكن) * أي أوحى إليهم ربهم، وقال لهم: * (لنهلكن) * وقال لهم * (استفتحوا) *.