الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.
فالشبهة الأولى: أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات: الأول: أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله: * (ويقولون إنه لمجنون * وما هو إلا ذكر للعالمين) * (القلم: 51، 52) وأيضا قوله: * (أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة) * (الأعراف: 184). والثاني: أنم كانوا يستبعدون كونه رسولا حقا من عند الله تعالى، فالرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله: * (إنك لمجنون) * في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله: * (يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * ففيه وجهان: الأول: أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون: * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27) وكما قال قوم شعيب: * (إنك لأنت الحليم الرشيد) * (هود: 87) وكما قال تعالى: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) * في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه. ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم: * (لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد لو كنت صادقا في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعا، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي، ويكون في محل الشكوك والشبهات، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك، ويقررون قولك طريق يفضي إلى حصول هذا المقصود قطعا، والطريق الذي تقرر به صحة نبوتك طريق في محل الشكوك والشبهات، فلو كنت صادقا في ادعاء النبوة لوجب في حكمة الله تعالى إنزال الملائكة الذين يصرحون بتصديقك وحيث لم تفعل ذلك علمنا أنك لست من النبوة في شيء، فهذا تقرير هذه الشبهة، ونظيرها قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وقالوا لولا أنزل عليك ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر) * (الأنعام: 8) وفيه احتمال آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بنزول العذاب إن لم يؤمنوا به، فالقوم طالبوه بنزول العذاب وقالوا له: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * الذين ينزلون عليك ينزلون علينا بذلك العذاب