فالأدون، وهذا الطريق هو المذكور في هذه السورة، وذلك لأنه تعالى ابتدأ في الاحتجاج على وجود الإله المختار بذكر الأجرام العالية الفلكية، ثم ثنى بذكر الاستدلال بأحوال الإنسان، ثم ثلث بذكر الاستدلال بأحوال الحيوان، ثم ربع بذكر الاستدلال بأحوال النبات، ثم خمس بذكر الاستدلال بأحوال العناصر الأربعة، وهذا الترتيب في غاية الحسن.
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول:
النوع الأول: من الدلائل المذكورة على وجود الإله الحكيم الاستدلال بأحوال السماوات والأرض فقال: * (خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون) * وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1) إن لفظ الخلق من كم وجه يدل على الاحتياج إلى الخالق الحكيم، ولا بأس بأن نعيد تلك الوجوه ههنا فنقول: الخلق عبارة عن التقدير بمقدار مخصوص، وهذا المعنى حاصل في السماوات من وجوه: الأول: أن كل جسم متناه فجسم السماء متناه، وكل ما كان متناهيا في الحجم والقدر، كان اختصاصه بذلك القدر المعين دون الأزيد والأنقص أمرا جائزا، وكل جائز فلا بد له من مقدر ومخصص، وكل ما كان مفتقرا إلى الغير فهو محدث. الثاني: وهو أن الحركة الأزلية ممتنعة، لأن الحركة تقتضي المسبوقية بالغير، والأزل ينافيه فالجمع بين الحركة والأزل محال. إذا ثبت هذا فنقول: إما أن يقال أن الأجرام والأجسام كانت معدومة في الأزل، ثم حدثت أو يقال إنها وإن كانت موجودة في الأزل إلا أنها كانت ساكنة ثم تحركت. وعلى التقديرين فلحركتها أول، فحدوث الحركة من ذلك المبدأ دون ما قبله أو ما بعده خلق وتقدير، فوجب افتقاره إلى مقدر وخالق ومخصص له. الثالث: أن جسم الفلك مركب من أجزاء بعضها حصلت في عمق جرم الفلك وبعضها في سطحه، والذي حصل في العمق كان يعقل حصوله في السطح وبالعكس، وإذا ثبت هذا كان اختصاص كل جزء بموضعه المعين أمرا جائزا فيفتقر إلى المخصص والمقدر، وبقية الوجوه مذكورة في أول سورة الأنعام.
واعلم أنه سبحانه لما احتج بالخلق والتقدير على حدوث السماوات والأرض قال بعده: * (تعالى عما يشركون) * والمراد أن القائلين بقدم السماوات والأرض كأنهم أثبتوا لله شريكا في كونه قديما أزليا فنزه نفسه عن ذلك، وبين أنه لا قديم إلا هو، وبهذا البيان ظهر أن الفائدة المطلوبة من قوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * (يونس: 18) في أول السورة غير الفائدة المطلوبة من ذكر هذه الكلمة ههنا، لأن المطلوب هناك إبطال قول من يقول: إن الأصنام تشفع للكفار في دفع العقاب عنهم، والمقصود