أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء هكذا كانت. ولك أسوة في الصبر على سفاهتهم وجهالتهم بجميع الأنبياء عليهم السلام، فهذا هو الكلام في نظم الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية محذوف والتقدير: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه. وقوله: * (في شيع الأولين) * أي في أمم الأولين وأتباعهم. قال الفراء: الشيع الأتباع واحدهم شيعة وشيعة الرجل أتباعه، والشيعة الأمة سموا بذلك، لأن بعضهم شايع بعضا وشاكله، وذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: * (أو يلبسكم شيعا) * (الأنعام: 65) قال الفراء: وقوله: * (في شيع الأولين) * من إضافة الصفة إلى الموصوف كقوله: * (لحق اليقين) * (الحاقة: 51) وقوله: * (بجانب الغربي) * (القصص: 44) وقوله: * (وذلك دين القيمة) * (البينة: 5) أما قوله: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) * أي عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء والرسل ذلك الاستهزاء بهم كما فعلوا بك ذكره تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن السبب الذي يحمل هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة أمور. الأول: أنهم يستثقلون التزام الطاعات والعبادات والاحتراز عن الطيبات واللذات. والثاني: أن الرسول يدعوهم إلى ترك ما ألفوه من أديانهم الخبيثة ومذاهبهم الباطلة، وذلك شاق شديد على الطباع. والثالث: أن الرسول متبوع مخدوم والأقوام يجب عليهم طاعته وخدمته وذلك أيضا في غاية المشقة. والرابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون فقيرا ولا يكون له أعوان وأنصار ولا مال ولا جاه فالمتنعمون والرؤساء يثقل عليهم خدمة من يكون بهذه الصفة. والخامس: خذلان الله لهم وإلقاء دواعي الكفر والجهل في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصلي؛ فلهذه الأسباب وما يشبهها تقع الجهال والضلال مع أكابر الأنبياء عليهم السلام في هذه الأعمال القبيحة والأفعال المنكرة.
أما قوله تعالى: * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: السلك إدخال الشيء في الشيء كإدخال الخيط في المخيط والرمح في المطعون، وقيل: في قوله: * (ما سلككم في سفر) * (المدثر: 42) أي أدخلكم في جهنم. وذكر أبو عبيدة وأبو عبيد: سلكته وأسلكته بمعنى واحد.
المسألة الثانية؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يخلق الباطل في قلوب الكفار، فقالوا: قوله * (كذلك نسلكه) * أي كذلك نسلك الباطل والضلال في قلوب المجرمين، قالت المعتزلة: لم يجر للضلال والكفر ذكر فيما قبل هذا اللفظ، فلا يمكن أن يكون الضمير عائدا إليه لا يقال: إنه تعالى قال: * (وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) * وقوله: * (يستهزئون) * يدل على الاستهزاء، فالضمير في قوله: * (كذلك نسلكه) * عائد إليه، والاستهزاء بالأنبياء كفر وضلال،